د. محمد عثمان الخشت سوف تستمر المعتقدات المزيفة طالما ظل يتمسك البعض بإتباع الفرق وتقديس الرجال، وسوف يستمر الإيمان بالأباطيل طالما يصر بعض المتحدثين باسم الدين على التمسك بأقوال قادة الفرق والجماعات الدينية، وطالما يتمسكون برفض العودة المباشرة إلى المنابع الصافية للوحي، «وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل اللّه قالوا بلْ نتّبع ما ألْفيْنا عليْه آباءنا...» (سورة البقرة: 170). وقد ترتب على ذلك خراب العقول، واضطراب التصورات، وتخلف الأمة، خاصة أن انتشار الأساطير تحت قناع الدين أدى إلى تكوين رؤية خرافية للكون والطبيعة والحياة. وبينما اجتهدت أمم أخرى في فهم الواقع، صنع بعض القدامى عالما ثانيا أسطوريا موازيا ليعيشوا فيه ويجذبوا الناس إليه، وتركوا الواقع الحي المعاش لحساب عالم الأسطورة والخرافة. أما الأمم المتقدمة فقد اجتهدت في فهم قوانين الطبيعة، بينما الأغلبية منا سارت وراء المتقنعين بالدين نحو عالم من صنع أوهامهم بعيدا عن الدين الخالص. إن النظرة العلمية ترى عظمة الله في انتظام قوانين الطبيعة، ومن ثم تحاول فهمها وتوظيفها للسيطرة عليها والاستفادة منها في تحسين جودة الحياة، بينما النظرة الخرافية ترى عظمة الله في خرق قوانين الطبيعة بواسطة قوى أسطورية من صنع عقولها. لقد استطاعت الأمم المتقدمة السير قدما في اكتشاف الكون بالعلوم، بينما أمتنا لا تزال تعمل على اكتشاف الكون من خلال أقوال وروايات أسطورية في بعض الكتب الموروثة. وأمثلتنا اليوم على هذا من الكتاب الشهير « إحياء علوم الدين » للغزالي الأشعري رحمه الله، وهو عالم له عندي احترام، وقد عكفت على بعض كتبه دراسة وتحقيقا في العشرينيات من عمري، ونشرتها في كبرى دار النشر في العالم العربي. لكني لا أقدسه ولا أسير وراءه أعمى منقادا، فهو بشر يصيب ويخطئ، وقد أجاد أحيانا وأخطأ أحيانا، من كتبه ما هو موضع تقدير في قاسم منها، ومن كتبه ما تسبب في تغييب العقول. ويُؤخذ عليه بشكل عام أنه كان لا يتحرى صحة الأحاديث المنسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وملأ كثيرا من كتبه بالأحاديث الضعيفة والمختلَقة، وبنى على ذلك أحكاما بعيدة عن المنهج العلمي الدقيق والنظرة العلمية للواقع. ومن أسف فإن آراءه المبنية على أحاديث ضعيفة وموضوعة غيبت كثيرا من العقول، وسيطرت على قطاعات كبيرة وتسببت في إضعاف النظرة العلمية للكون لصالح النظرة الأسطورية. وهنا أريد أن أتوقف لكي أوضح أنه من أكبر الأمراض التي تسيطر على عقول بعض أصحاب القداسة، طريقة التفكير الأرسطية «إما أبيض أو أسود» ولا ثالث بينهما، وهذه للأسف منشأ التطرف الذي يقوم على الطريقة نفسها « إما ... أو ... »، ومن هنا وفي حالة الغزالي لا نقول: «الغزالي إما انه عالم جيد أو ضعيف»، بل نقول « الغزالي أحيانا يجيد وأحيانا يخطئ»، مثله مثل أي بشر. أما الذين يفكرون بطريقة خاطئة فيقولون: «إما معنا أو ضدنا»، أو يقولون «نحن معه أو ضده» ولا ثالث بينهما! في كتابه « إحياء علوم الدين »، يتحدث الغزالي عن ثلاث علل لتحديد أوقات كراهية الصلاة، يقول: ففي النهي في أوقات الكراهية مهمات ثلاثة: أحدها التوقي من مضاهاة عبدة الشمس، والثاني- الاحتراز من انتشار الشياطين إذ قال صلى الله عليه وسلم : إن الشمس لتطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا طلعت قارنها، وإذا ارتفعت فارقها، فإن استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا تضيفت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها، ونهى عن الصلوات في هذه الأوقات ونبه به على العلة. والثالث - أن سالكي طريق الآخرة لا يزالون يواظبون على الصلوات في جميع الأوقات، والمواظبة على نمط واحد من العبادات يورث الملل. ومهما منع منها ساعة زاد النشاط وانبعثت الدواعي، والإنسان حريص على ما منع منه، فَفِي تَعْطِيلِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ زِيَادَةُ تَحْرِيضٍ وَبَعْثٍ على انتظار انقضاء الوقت، فخصصت هذه الأوقات بالتسبيح والاستغفار حذراً من الملل بالمداومة وتفرجا بالانتقال من نوع عبادة إلى نوع آخر، ففي الاستطراف والاستجداد لذة ونشاط وفي الاستمرار على شيء واحد استثقال وملال. ولذلك لم تكن الصلاة سجودا مجردا ولا ركوعا مجردا ولا قياما مجرداً، بل رتبت العبادات من أعمال مختلفة وأذكار متباينة؛ فإن القلب يدرك من كل عمل منهما لذة جديدة عند الانتقال إليها ولو واظب على الشيء الواحد لتسارع إليه الملل، فإذا كانت هذه أموراً مهمة في النهي عن ارتكاب أوقات الكراهة. إلى غير ذلك من أسرار أخرى ليس في قوة البشر الاطلاع عليها والله. ورسوله أعلم بها «ج 1/ ص 208». في كلام الغزالي هذا، اختلطت الحقائق بالأساطير، فكراهية الصلاة في أوقات معينة، من المفهوم أنه لتجنب التشابه مع المجوس الذين يتعبدون في تلك الأوقات، وهذا ما ذكره الغزالي في العلة الأولى. ومن المفهوم أيضا أن النهي عن الصلاة في هذه الأوقات ربما يكون لكسر النمط والملل، وللتنويع في أشكال العبادة. وهذا مفاد ما ذكره الغزالي في العلة الثالثة. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في العلة الثانية التي ذكرها مستندا إلى حديث ضعيف مرسل، وهو :إن الشمس لتطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا طلعت قارنها، وإذا ارتفعت فارقها، فإن استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا تضيفت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها، فهذا الحديث من حيث السند، أخرجه النسائي من حديث عبد الرحمن الصنابحي، وهو حديث مرسل، لأن الصنابحي لم ير النبي صلى الله عليه وسلم. فكيف يروي عن الرسول وهو لم يلقه؟! وأوضح أكثر معنى الحديث المرسل من كتابي «مفاتيح علوم الحديث وطرق تخريجه» الصادر في الثمانينيات من القرن الماضي. وفيه تم الحديث التفصيلي عن الحديث المرسل ودرجاته وأنواعه وحجيته. ودون الدخول في تلك التفصيلات، فإن الحديث المرسل هو ذلك الحديث الذي يسقط من سنده مَنْ هو بين التابعي والرسول، كأن يقول التابعي مباشرة: قال رسول الله كذا دون أن يذكر مَنْ نقل له الحديث عن الرسول. وسمى «مرسلاً» لأن «أرسل» بمعنى «أطلق»، فيطلق التابعي الإسناد دون أن يقيده براوٍ. ومن المعروف أنه لا يحتج بالحديث المرسل في الأحكام، ومن باب أولى لا يحتج به في العقائد. إذن فالحديث الذي يستشهد به الغزالي الأشعري في حكم شرعي، بل أمر عقائدي أيضا، ليس بحديث صحيح السند. والأكثر مرارا أن يقرن ظاهرة طبيعية هي الشمس وحركتها بأمر أسطوري، وهنا تختل رؤية الكون عند المصدق لكلامه، وتتحول الظواهر الكونية ذات القوانين المطردة إلى ظواهر أسطورية تشكل أركان عقيدة المسلم وطريقة تعامله معها. هل يمكن الآن أن نضع أيدينا على أحد أسباب تخلفنا العلمي أمام الأمم الأخرى؟ وهل يمكن الآن أن يفيق من غيبوبتهم أولئك الذين تنفجر ذواتهم من التضخم الكاذب؟ هل لهم أن يتركوا الشجار والجدال والمعارك المزيفة وينخرطوا في طريق العقل النقدي والعلوم؟ هل لهم أن يدركوا أن التقدم طريقه العمل والمشقة وليس الصوت العالي والتعصب البغيض لقداسة مزيفة أو فرقة من الفرق؟ نقلا عن صحيفة الأهرام