دلت نصوص الشرع الشريف على أن أصل الإنسانية يرجع إلى أصل واحد يتمثل فى أبينا آدم عليه الصلاة والسلام ، ثم خلق الله تعالى أمنا حواء عليها السلام من جزء منه، ومنهما حصل إنجاب كل أفراد الإنسان ذكورًا وإناثًا عبر سلاسل نَسَبية متصلة ومتعاقبة الأجيال ينتمى كل فرع إلى أصل فوقه. ولا شك أن إنجاب الأولاد مطلب ضروري لاستمرار بقاء جنس الإنسان على وجه هذه الحياة الدنيا، بل هى القضية الأصلية المقصودة من إسكان آدم وأبنائه الأرض لعمارتها والاستفادة من خيراتها ومواردها بطريقة متوازنة تحقق التناسب الحكيم بين موارد الأرض وعدد القاطنين عليها. وهذا ظاهر بوضوح فى النصوص الشرعيَّة حيث حثت عموم الناس على التزاوج والتكاثر ونفرت من الرهبانية والتبتل، لكنها قيدت كل هذا بشروط وضوابط تأتى على رأس أولولياتها توافر الاستطاعة البدنية والمالية حتى تتمكن الأسرة من القيام بأعباء تربية الأبناء والذرية سُلوكيًّا وبدنيًّا وثقافيًّا مع توفير احتياجاتهم مادية ومعنوية. نعم، إن الشرع الشريف قد أمر غير المستطيع الذى لم تتهيأ له الظروف، ولم تتوافر له الإمكانيات بالصبر والاستعفاف؛ كما فى قولِه تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه...ِ)[النور : 33]، بل أرشده رسول الله صلى الله عليه وسلم ب الصوم والمداومة عليه حتى يتغلب على شهواته ودواعى طبيعته؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصن لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» (متفقٌ عليه). إن النصوص الشرعية قد رسمت إطارًا واضحًا للإنجاب يدور حول أن التكاثر ليس مقصودًا لذاته؛ فالإسلام لا يهدف من التكاثر مجرد وجود نسل كثير لا وزن له ولا قيمة، إنما يتجلى مقصوده فى وجود نسل قوى صالح، وهذا لا يتأتى إلا من خلال رعاية الأبناء رعاية متكاملة دون مشقة أو احتياج غير كريم، خاصة فى ظل الظروف المعيشية المعاصرة بتحدياتها المتنوعة، وفى ذلك يقول تعالى: (...لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ...)[البقرة: 233]، وهذه الآية الكريمة وإن كانت خبرًا فى الظاهر؛ إلا أن المراد منها النهى الشامل لكل المضار التى قد يتحملها الزوج أو الزوجة أو هما معًا، فمن مضار الدنيا تكلف الإنسان ما لا يطيقه مما يجعله فى مشقة وتعسير وتعاسة فى حياته، ومن مضار الآخرة تحمل الإنسان مسئولية يعلم من نفسه أنه سيعجز عنها وسيحاسب على إضاعتها حسابا شديدا. وهى معانٍ راقية تحمل فى طياتها دلالات واضحة تؤكد أن الذرية لا بد معها من الصلاح والعناية، ولذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يتعوذ فى دعائه من «جهد البلاء»، وهو قلة المال وكثرة العيال كما فسره ابن عمر رضى الله عنهما، كما ورد فى مأثورات الصحابة رضى الله عنهم التحذير من كثرة العيال خاصة فى حالة عدم توافر وسائل التربية الصالحة لهم، حيث ورد أن عمرو بن العاص رضى الله عنه فى بعض خطبه حذر أهل مصر من أحوال أربعة؛ لأنها تؤدى إلى التعب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى المذلة بعد العزة، وهي: كثرة العيال، وإخفاض الحال، والتضييع للمال، والقيل بعد القال.( يراجع: شرح مشكل الآثار للطحاوي). كما أن هذه المعانى تستوجب ضرورة تحقيق معيار الإنجاب ورسالته السامية فى الإسلام، فالولد ذكرًا كان أو أنثى ما هو إلا هدية وهبة من الله تعالى تقر بها عين أبيه وأمه إذا عاش سعيدًا فى حياته، معافًى فى بدنه، مستقيمًا فى سلوكه، ناضجًا فى تفكيره، بصيرًا بأمور دنياه وشئون دينه، أما لو عاش تعسًا منحرفًا فلا يخفى لدى أى عاقل أنه يكون مبعث ألم وتعب لنفسه ولوالديه وأسرته ومجتمعه. * نقلًا عن صحيفة الأهرام