حصلت بالمولد المحمدى أعظم إطلالة للرحمة الإلهية على العالمين بعد مدة طويلة انقطعت فيها الحياة البشرية على وجه الخصوص من هداية الأنبياء والمرسلين ، حيث عاش الإنسان فى هذه الفترة حياة مظلمة، شاع فى أغلب جوانبها الفساد والجاهلية والتوسع فى العنف والتخريب دون مراعاة لكرامة إنسان أو قدسية مكان. نعم، فقد كانت حياة مليئة بالمآسي والمتاعب لا أمل فيها، حياة فيها الشتات والظلم والتخبط وانعدام الأمن والاستقرار، وأصدق مثال على ذلك أنه قبل يوم مولده "صلى الله عليه وسلم" بخمسين يومًا تقريبًا شن أبرهة زعيم بلاد الحبشة حربًا غضبًا وانتقامًا من العرب ومقدساتهم. ومعلومٌ أنه ببركته "صلى الله عليه وسلم" ولأجل بعثته ورسالته صان الله تعالى البيت الحرام والعرب من هذا المكر والعدوان، وهو دليل حمل فى طياته إشارة مبكرة على أن رسالة محمد بن عبد الله "صلى الله عليه وسلم" ليست إلا رسالة الحب والرحمة لا الكراهية والعدوان، والكرامة والتعاون لا الاختلاف والتشاحن، والأمن لا العنف والإرهاب، والبناء والعمران والاستقرار لا الهدم والفوضى. ولذا اهتم الرسول "صلى الله عليه وسلم" بتغيير الإنسان وإصلاح أحواله من الجهل إلى العلم، ومن الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى والاستقامة وصلاح البشرية، وفى ذلك يقول الله تعالى تنويهًا بشأنه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). وفى سبيل ذلك انطلق "صلى الله عليه وسلم" من سنة الله ومقتضى حكمته التى أرشد إليها قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، حيث التأكيد على ضرورة البناء الذاتى للفرد وأهمية الاعتماد على الأفعال لا مجرد الأقوال والأمانى كعامل أصيل فى صياغة شخصية الإنسان وبناء المجتمع. وقد صاحب ذلك توضيح المعيار الصحيح لهذا البناء، وهو أن يكونَ وفق المناهج الواضحة الرصينة التى تنطلق من الأوامر الإلهية وتراعى منظومة القيم والأخلاق بصورة عملية متكاملة، ومن ثَمَّ ضرب النبي "صلى الله عليه وسلم" الأسوة الواقعية والنموذج العملى والنسق الأعلى فى اكتمال شخصية الإنسان فى مختلف الأحوال وتنوع العلاقات. فقد كانت أحواله صالحة وخصاله فاضلة عبر عقود عمره المبارك بصورة اتفق عليها الناس، وسمَّاه أهلُ مكة قبل البعثة «الصادق الأمين»، كما ورد وصفه المنيف فى الكتب السماوية، كما جاء على لسان عبد الله بن عمرو "رضي الله عنهما" وكان عنده اطلاع واسع على كتب أهل الكتاب-: والله إنه لموصوف فى التوراة بصفته فى القرآن: يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، وأنت عبدى ورسولي، سميتك المتوكل، لست بفظ ولا غليظ، ولا صَخَّابٍ فى الأسواقِ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.(صحيح البخاري/ 6622). كما جمعت خصاله الشريفة وأحواله قيمةُ الرحمة التى تعد درة القيم وتاج الأخلاق، حيث اتسعت دائرة رحمته "صلى الله عليه وسلم" حتى شملت العالمين على حد سواء، بل من ظنَّ انحصار رحمته "صلى الله عليه وسلم" فى المسلمين خاصة فقد ضَيَّق واسعًا؛ فقد تواردت النصوص على إقالته لعثرات بعض غير المسلمين والصفح عن جفائهم وغلظتهم، بل الحسن فى معاملتهم والمنع من انتقاصهم ولو بكلمة. وبهذه الدلالات تظهر أهمية أن تتخذ البشرية جميعًا من أعظم إطلالة للرحمة الإلهية التى تتمثل فى مولده الشريف وفى رسالته العظيمة دروسًا نافعة فى كيفية صياغة شخصية صحيحة للإنسان والمجتمع المعاصر؛ حيث البناء الذاتى للفرد وإشاعة القيم النافعة كالحب والرحمة والعلم والعمل والإتقان والعمران من أجل تحقيق الاستقرار ودعم مسيرة الحضارة والتقدم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» (صحيح البخارى/ 7376). نقلًا عن صحيفة الأهرام