د. محمد عثمان الخشت توجد أسباب شتى لتفسير نشأة المعتقدات المزيفة والأسطورية، منها أسباب اجتماعية وسياسية واقتصادية. وقد تكون تلك المعتقدات نتيجة توهمات أو تخيلات أو أحلام أو عقد نفسية أو اضطراب عقلي. وقد يندهش القارئ الكريم عندما يعلم أن كثيرا من المعتقدات المزيفة كانت فى نشأتها نتيجة هلاوس، والهلاوس هى اليقين الحسى لدى الفرد أو المجموعة بوجود « كائن محسوس » على الرغم من أن الشخص الطبيعى لا يشعر بوجوده. ويرى المصابون بالهلاوس أشياء غير حقيقية، ويسمعون أصواتا لأشياء غير موجودة، وسماعهم ورؤيتهم لتلك الأشياء تكون متجانسة ومترابطة ولها خصائص المشهد الدرامى المحكم المتحقق فى الزمان والمكان بكل حيويته وامتلائه بالإحساس والحيوية! وهنا يتكون لهم يقين مطلق بها! والحال نفسه والمواصفات ذاتها تجدها فى كثير من الأنساق العقائدية لكثير من الفرق والمذاهب الدينية التى يتقاتل الناس من أجلها! وهذا فى الحقيقة مرض عقلى لكن صاحبه لا يعى ذلك. ومن أسف فإن الهلوسة فى شكلها هذا تهيئ للشخص أنه يرى ويسمع كائنا غير موجود، ويعتقد أن هذا الكائن متجسد فى الواقع الخارجى ماديا، بينما هو من صنع عقله المريض. ويوجد اختلاف بين الهلاوس والحلم؛ لأن الهلاوس تحدث فى اليقظة وفى أثناء الوعي، أما الحلم فيحدث فى النوم عند غياب الوعي. وبالمناسبة بعض المعتقدات المزيفة تكون أيضا نتيجة الحلم أثناء النوم، لكن الشخص عندما يستيقظ يعدّها رؤية لواقع حقيقي، مثلما يحدث لكثير من مدعى النبوة. ويختلف الحلم عن التخيل؛ لأن التخيل يكون أثناء اليقظة والوعى ويكون للإرادة دخل فيه، أما التخيل فيكون متعلقا بأشياء واقعية لكن الخيال يضفى عليها ما ليس فيها ويعدل فى طبيعتها. ومن جهة أخرى تختلف الهلاوس عن التوهم؛ لأن التوهم يكون تفسيرا إدراكيا محرفا ومشوها لشيء موجود بالفعل لكن الشخص المتوهم يراه على غير حقيقته، أو يعطيه معنى زائدا. ومن الممكن أن يجعل التوهم الشخص يرى شيئا قبيحا مع أنه فى الواقع جميل، أو العكس. ومن الممكن أن يكون الشيء ضعيفا صغيرا لكن المتوهم يراه قويا ضخما. والفرق بين التخيل والتوهم أن التوهم لا إرادي. ونرجع للهلاوس مرة أخرى، وهى غالبا ما تكون تصورا لكائنات محسوسة توجد عادة فى الواقع، لكن المهلوس يراها أو يسمعها ويتصور وجودها فى لحظة ومكان لا تكون موجودة فيهما، مثل الذى يرى وجود قطة على الرغم من عدم وجودها. ويوجد نوع يُطلق عليه «الهلاوس الكاذبة»، وفى هذا النوع يرى الشخص كائنا لا يوجد على الإطلاق. وهذا النوع يمكن أن يفسر كثيرا من نشأة المعتقدات المزيفة . والهلاوس أنواع متعددة، مثل الهلاوس البصرية، والهلاوس السمعية، والهلاوس اللمسية، والهلاوس الشمية، و الهلاوس التذوقية. ولعل من أفضل الأمثلة على المعتقدات المزيفة التى تنشأ نتيجة الهلاوس بأنواعها، خاصة «الهلاوس الكاذبة»، معتقدات عبادة الشيطان فى العصور الوسطى الأوروبية، حيث عاد الشيطان ك إله الشر فى تلك العصور. وعلى الرغم من عدم وجود كيان شيطانى قوى عند اليونان فقد نشأ الإيمان ب إله الشر فى الغرب عند بعض الفرق الخارجة على المسيحية تحت تأثير الديانة الزروانية الفارسية وبعض نصوص العهد الجديد المتأثرة بالثنوية. وأبرز فرقه «البوجمولية» المنشقة عن المسيحية فى آسيا الوسطى والبلقان. وتؤمن بإله شرير وإله خير، وأنزلت إله الشر « ساتانيل » منزلة رفيعة، واعتبرته الابن الأول المتمرد على الإله الآب، وآمنت بأن إله الشر خلق العالم وآدم من أجل احتباس الروح فى المادة. وأرسل الله الآب ابنه الثانى المسيح من أجل إنقاذ العالم. وتم إعدام مؤسسها سنة 1118م. وفى القرن الحادى عشر نشأت فرقة أخرى هى «الألبجنسية» بجنوب فرنسا، تتوهم أن الأرواح خلقت من مبدأ خيّر، بينما المادة خلقت بواسطة مبدأ الشر الأزلي. وتعتقد أن الله لم يخلق هذا العالم المادي، بل هو من خلق الشيطان. وهى منشقة عن المسيحية، وتعتبر أن المسيح ملاك وأن جسده وهم أو شبح. وهى ليست إباحية، وتحرم الفواحش، وتدعو إلى العمل، وتنكر البابوية الكاثوليكية وتعتبرها دجلا. وثمة فرقة أخرى منشقة عن المسيحية ظهرت فى ألمانيا فى القرن 12، هى «الكاثارية»، وتقوم عقيدتها على احتقار الحياة والمادة لأنهما من صنع إله الشر الذى سجن الروح فى المادة، ولهذا الإله النفوذ والسيطرة على الأرض. ولذا أرسل الإله الأكبر المسيح إله الخير ليعلم البشرية طريقة النجاة! وفى عام 1208م شن عليهم البابا أنوسينت الثالث حربا دامت عشرين عاما، تلا ذلك ظهور محاكم التفتيش فتم القضاء عليهم فى القرن الرابع عشر. ولم تعبد هذه الفرق إله الشر على عكس ما هو شائع، لكن من جهة أخرى ظهرت عبادة الشيطان فى الغرب فى القرون الوسطى، وتدور حول الاعتقاد بأن الشيطان إله الأرض، والله إله السماء، وهما متكافئان فى القوة، ويتصارعان صراعا قويا، ويتساجلان النصر والهزيمة، ولذا فالعالم محل نزاع بين القوى السفلى الممثلة للشر، والقوى العليا الممثلة للخير. وتكشف الحالة الحاضرة للصراع عن انتصار الشيطان، حيث تبدو واضحة سيادة الشيطان على العالم الأرضي، لذا يرون من الضرورى التقرب من الشيطان واتباع أوامره خوفا من شروره! وقد مارس عبدة الشيطان طقوسهم بعيدا عن الأعين فى الجبال والغابات والأودية، فى حفلات جنسية إباحية وتضحيتهم بالبشر خاصة الأطفال وأكل لحومهم. وسبوا المسيح وحوارييه والقديسين، ودعوا إلى الانتقام من البابا والملوك المسيحيين وتدنيس كل ما هو مقدس. ويزعم بعضهم أن الشيطان يزورهم فى صورة امرأة. وقد وصلتنا وثيقة من عام 1022م فى أورلنس بفرنسا، أشارت إلى أنه حوكم عدد من الأفراد لاشتراكهم فى عبادة الشيطان. كما ظهرت فرق مشابهة فى إنجلترا والنمسا تبتهل للشيطان. وقد اكتشفت الكنيسة هذه الفرق، وقامت بحرق مجموعة من أتباعها وقتلت زعيمها ما بين عام 1310م وعام 1335م . ولكن الحرق والقتل لم يقضِ على عقائدهم الشيطانية، إذ ظهرت بمدينة «تولوز» جماعة تدعو لنفس العقائد، لاسيما التضحية بالأطفال، وقد خطفت مئات الأطفال لهذا الغرض بين عامى 1432-1440م. وثمة إشارات فى المراجع المختلفة تصنف فرسان الهيكل وجمعية الصليب الوردى فى القرون الوسطى مع عبدة الشيطان وتنسب لهم كثيرا من المعتقدات المذكورة أعلاه. وظهر فى القرن السابع عشر فرق مشابهة مثل «ياكين»، والشعلة البافارية، والشعلة الفرنسية، وأخوة آسيا؛ وكلها ذات طقوس ومفاهيم تؤله الشيطان. (انظر كتابنا: مدخل إلى فلسفة الدين ). ... وسوف تستمر الأوهام، والتخيلات، والهلوسات، وأضغاث الأحلام، ملم يسد العقل النقدى ويحل العلم محل الخرافة، ويتم علاج المنفصلين عن الواقع! نقلا عن صحيفة الأهرام