د. محمد عثمان الخشت كثير من التصورات التي نعدها الآن من الخرافات والأساطير، كانت في الأصل معتقدات راسخة يقاتل الناس بعضهم بعضا من أجلها. وبمرور الوقت وتطور العقل الإنساني وتقدم العلوم، أصبحنا ننظر إليها بوصفها حكايات للتسلية في أوقات الفراغ. إذن كانت توجد تصورات تعدها بعض الشعوب معتقدات راسخة وحقائق مطلقة وذات مستوي صحة في أعلي درجات اليقين في تفسير الكون وظواهره وفي فهم الحياة الإنسانية وأحداثها، وفي تفسير ظواهر الخير والشر، وفي تفسير التاريخ. وكثير من تلك المعتقدات كانت تنشأ في البداية بمجموعة من الحقائق ثم يُضم إليها تدريجيا مجموعات من الخرافات في منظومة واحدة، ثم تنمو هذه المنظومة، حيث تتحول إلي ما يشبه كرة الثلج التي تتدحرج علي الجليد فتزيد تدريجيا، وهكذا كانت المعتقدات أو الأساطير تنمو تدريجيا خاصة مع الروايات الشفهية التي تفتح المجال لمزيد من الإضافة والتحريف في كل مرة لمزيد من تحقيق الإثارة أو لمزيد من التوظيف السياسي والاجتماعي لتحقيق مصالح جديدة. وآمنت شعوب بأكملها بهذه المعتقدات كمسلمات، ليس فقط كمعتقدات دينية بل أيضا كحقائق علمية في تفسير نشأة الكون وتفسير الظواهر الطبيعية وكيفية خلق الإنسان وتطوره علي الأرض. وتحول كثير من تلك المعتقدات عند كثير من الشعوب، إلي التصنيف لاحقا كأساطير وأضغاث أحلام وحكايات تشكل جزءا من التراث الأدبي، مثل الأساطير المصرية القديمة ، والأساطير العراقية والسورية، والأساطير الهندية والفارسية، والأساطير اليونانية والرومانية، إلي آخره. لكن عصر الأسطورة لم ينته بعد، فهناك مجموعة أخري لا تزال حية كمعتقدات تدافع عنها بعض الشعوب والطوائف كعقائد مطلقة تُقام من أجلها الحروب المقدسة! ومن أسف تسللت بعض تلك الأساطير إلي معتقدات بعض الطوائف من المنتمين إلي مجموعة الديانات الإبراهيمية، أي الديانات الكتابية للأنبياء من سلالة إبراهيم عليه السلام، حيث تسللت الأساطير عبر الفرق الدينية إلي معتقدات كثير من الناس نتيجة ما أضافه منها بعض رجال الدين إلي المعتقدات الأصلية. ولذلك يتحمل بعض رجال الدين والفرق الدينية المسئولية كاملة عما لحق المعتقدات الأصلية من تحريفات وإضافات. كما أن الأساطير لا تزال تعيش في كل ديانات العالم الأخري التي نطلق عليها في ثقافتنا مصطلح «ديانات وضعية». ونضرب بعض الأمثلة الجديدة من التصورات الأسطورية للشيطان من مجموعة متنوعة من الديانات التي ربما لا يسمع عنها البعض، والتي انتهت من الوجود كديانات مستقلة، لكن معتقداتها (أساطيرها) تسللت إلي بعض فرق الديانات الكتابية وأخذت صورة جديدة فيما يمكن أن يُطلق عليه التشكل الكاذب. وقد سبق أن تحدثنا عنها في كتاب (تطور الأديان)، وكتاب (مدخل إلي فلسفة الدين) وغيرهما. ومن تلك الديانات الديانة الميثرائية، وكانت الديانة الميثرائية ديانة وثنية من أصل هندي فارسي، لكنها انتشرت بعد الإسكندر الأكبر عبر آسيا الصغري في الغرب وبلاد البحر المتوسط في أوروبا، وانتشرت في الدولة الرومانية خاصة بين الجنود الرومان، ووصلت قمة انتشارها في الدولة الرومانية في القرن الثالث الميلادي. وهذه الديانة نوع من الديانة الزروانية الفارسية التي كان يعبد فيها كل من »ميثرا«إله الشمس، و«انكرامايندو«إله الشر. وكان اتباعها يمارسون شعائر وتعازيم خاصة لتجنيد الشياطين في خدمتهم واستخدامهم ضد أعدائهم أملا في القضاء عليهم. لكن كان بها فرع يقوم علي عبادة إله الشر أو الشيطان فقط وممارسة السحر والجحود والإباحيات. وكانت الميثرائية كديانة للجيش الفارسي القديم تنتشر في الأقطار التي تصلها الجيوش الزروانية ، كما اعتنقها الجنود الرومان وزاد انتشارها معهم، لكنها واجهت ضربة قوية من الديانة المسيحية في القرن الرابع بعد الميلاد، وتعرض أتباعها لاضطهاد شديد. ومع ذلك تخفت وتسللت إلي عقائد بعض الفرق في صورة جديدة وفي نوع من التشكل الكاذب، ولا يزال يؤمن بها البعض بطريقة أخري دون أن يدري أصلها الوثني. والشيطان بمفهومه هذا لا يكاد يكون له وجود في أساطير اليونان، لكن توجد أرواح شريرة تسمي (Alastores)، وهي تحاول دائما أن تزين الضلال للناس ليسلكوا طريق الشر. أما الغنوصية في القرن الأول للميلاد فقد أدخلت كثيرا من السحر والشعوذة في تعاليمها، وقالت بإمكانية السيطرة علي القوي الخفية كالشياطين وغيرهم. وتأثرت في مراحلها المتأخرة بالديانة الثنوية، حيث اعتبرت الشيطان مساويا له في القوة والسلطان! ومن أسف تسرب هذا المعتقد المزيف إلي طوائف من ديانات أخري. وفي تاريخ التراث الإسلامي، وصل الحال بالبعض إلي عبادة الشيطان ، وتنسب عبادة الشيطان في التاريخ الإسلامي إلي اليزيدية التي نشأت بعد انهيار الدولة الأموية، ويقطن أكثر أتباعها الشمال الشرقي من الموصل، وبغداد، ودمشق، وحلب، ومنهم طوائف في إيران وأوران الروسية. وتقوي الشكوك حول ما يشيع عن هذه الطائفة عند التدقيق العلمي؛ لأن أغلب الدراسات الشائعة تقول بعبادتهم للشيطان، بينما ثمة دراسات حديثة لاسيما من أبناء هذه الطائفة تنفي هذا. والرؤية التقليدية هي أن اليزيدية تدين ب عبادة الشيطان بسبب تأثرها بالعقيدة الزرادشتية المحرفة، فهم بقية عبدة أهريمان، وقيل لأنهم يعتقدون أن الشيطان تاب والله قبل توبته، فرجع يتعبد مع الملائكة. والذي أسسها حسب هذه الرؤية هو عدي بن مسافر المتوفي حوالي سنة 1154 م الذي قال بتحريم لعن الشيطان. وهناك من يري أن اليزيدية أخذت هذه التسمية من تأليههم ليزيد بن معاوية. ويعتقد آخرون بأنها ظهرت في العصر العباسي. ولليزيدية كتابان مقدسان أحدهما يسمي «الجلوة» وفيه خطاب الإله إلي اليزيديين خاصة ويشتمل علي عقيدة تناسخ الأرواح، ويؤكد أن الكتب السماوية بُدلت وحُرفت. أما الكتاب الثاني فيسمي »مصحف رش«أي الكتاب الأسود، وفيه الشرائع التي أنزلت إليهم. ومنها الإباحية، وشرب الخمر، وارتكاب الفواحش. لكن يدافع د. ميرزا حسن دناي عنها ويري أنها بريئة من عبادة الشيطان ، وتؤمن بالله الواحد الأحد ولا تقبل له شريكا، وطاووس ملك هو عندهم اسم من أسماء الله. وظهر هذا الاتهام ضدها في العهد العثماني عام 1791 لأسباب مغرضة حينما أصدر أحد الأئمة وبتحريك من سليمان باشا فتوي تحرض علي قتل اليزيدية، لغايات سياسية بحتة من أجل الاستيلاء علي أملاكهم وعقاراتهم وسبي نسائهم. والإله حسب اليزيدية هو الذي خلق نفسه، ومن ثم خلق كل شيء بما فيه الخير والشر. واليزيديون يحرمون الأعمال الشريرة والتعدي علي الغير، ويقدمون جل احترامهم- حسب قول ميرزا- لأتباع جميع الديانات الأخري ولكل الأنبياء والرسل والكتب والتعاليم المقدسة. بل يزعم ميرزا أنهم لا يؤمنون بوجود الشيطان أو ملاك الشر؛ حيث إن الملائكة السبعة في اللاهوت اليزيدي خيرة كلها وتدير أمور الدنيا بأمر من الله تعالي. هكذا يدافع ميرزا حسن دناي عنها ويري أنها بريئة من عبادة الشيطان . ومن وجهة نظري يبدو أن الطائفة اليزيدية تقلبت في أطوار مختلفة علي مر القرون، فدخلتها عناصر غنوصية ويهودية ونصرانية وفارسية، كما تأثرت بالإسلام، وتوالي عليها التحريف والنقص والتبديل حتي اليوم. ويبدو أن رأي د.ميرزا يدور حولها في مرحلتها الأخيرة تحت التأثير الإسلامي. لكنه لا يذكر ذلك. أساطير بعضها فوق بعض، تختفي حينا، وتظهر أحيانا أخري، تموت ظاهريا في بعض العصور، لكنها تعود في صورة جديدة وشكل مزيف لتندمج مع عقائد أخري. أساطير لا يكاد ينجو منها إلا من يتمسك بالعقل النقدي والإيمان الكوني بالواحد الأحد والتفسير العلمي للظواهر الطبيعية. متي يأتي اليوم الذي يتأسس فيه الإيمان علي التفسير العلمي للكون وليس علي الأسطورة وأوهام الكهنة؟ نقلا عن صحيفة الأهرام