د. جابر عصفور عندما استطعت أن أتغلب على العقبات البيروقراطية والإدارية وبعونٍ من وزير الثقافة الأسبق، فاروق حسنى، وبتزكيةٍ رائعة من السيدة سوزان مبارك، افتُتح المركز القومى للترجمة فى شهر مارس عام 2007، وكانت الخطة أن يصدر ألف كتابٍ كل عامٍ. وكان الهدف هو مواصلة الريادة المصرية فى مجال الترجمة منذ أن أسس محمد على باشا مدرسة الألسن التى تولَّى إدارتها، رفاعة رافع الطهطاوى (1801- 1873)، وفى الوقت نفسه فَتح نوافذ المعرفة العالمية على كل أنحاء الكرة الأرضية بما تتميز به من تنوعٍ ثقافى خلّاق أمام الوعى العربى بوجهٍ عام، والعقل المصرى بوجه خاص. ولم أُطلِق اسم المركز القومى للترجمة على الوليد الجديد لوزارة الثقافة اعتباطًا، وإنما وعيًا بتاريخ مصر الثقافى منذ رفاعة الطهطاوى ، وتطلعًا إلى مستقبلٍ معرفى مغاير تغيرت فيه مفاهيم الزمان والمكان، لا فارق فى ذلك بين معارف إنسانية أو علمية أو اجتماعية أو اقتصادية أو حتى معارف مرتبطة بالعلوم البحتة المتغيرة فى تسارعٍ لا يلاحقه الوعى البشرى فى سكونه وبُطء إيقاعه. ومنذ أن صدر القرار الخاص بتعيينى مديرًا للمركز القومى للترجمة (بتاريخ 28/3/ 2007) حرصتُ على أن يكون كل كتابٍ مُصدَّرًا بالكلمة التالية: تهدف إصدارات المركز القومى للترجمة إلى تقديم الاتجاهات الفكرية والمذاهب المختلفة للقارئ العربى وتعريفه بها. والأفكار التى تتضمنها هى اجتهادات أصحابها فى ثقافاتهم، ولا تُعبِّر بالضرورة عن رأى المركز. وكان هدفى من هذا الإبلاغ أن أُنبِّه القراء جميعًا إلى ضرورة الاعتراف بالاختلاف، وإلى أن المركز بالحتم سوف يُترجم أفكارًا واتجاهات قد تروق أو لا تروق للقارئ العربى. فالهدف من إنشاء المركز كان ولا يزال تقديم ثقافة التنوع الخلّاق فى الكوكب الأرضى كله، لا فارق فى ذلك بين تنوعٍ ثقافى قديمٍ أو تنوعٍ ثقافى جديدٍ أو تنوعٍ ثقافى يمكن أن يحدث فى المستقبل، فالمهم هو وضع القارئ العربى أمام معارف الدنيا بأسرِها، وفَتح وعيه على كل تطورات المعرفة فى الكوكب الأرضى. هكذا نجح المركز القومى للترجمة فى أن يصدر إلى أن تركته لكى أصبح وزيرًا للثقافة فى 31 يناير عام 2011 للمرة الأولى، ثلاثة آلاف كتابٍ تضم صفحاتها كنوز المعرفة الإنسانية فى عصورها القديمة والحديثة والمعاصرة، بل القادمة فى المستقبل فيما يُسمَّى ب: علوم المستقبليات. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد بلغ عدد اللغات التى ترجمنا عنها ما يزيد على خمس وثلاثين لغة، موزَّعة ما بين شرق الكوكب الأرضى وغربه وشماله وجنوبه. ولم تبخل الدولة فى دعم المركز فى ذلك الوقت، فمنحته كل ما يُعينه على تحقيق أهدافه. وبالفعل حقق المركز نجاحًا عالميًّا ينبغى أن نفخر به لا أن نهيل عليه التراب، فقد نال المركز احترام وثقة كبريات دور النشر العالمية، كما حصل المركز على جائزة الملك فيصل العالمية. وأصبح هو المركز الأول للترجمة فى العالم العربى دون مُنازع. ولم يكن عمل المركز مُقتصرًا على الترجمة والنشر وحدهما، بل جاوز ذلك إلى الجوانب العلمية للترجمة، فأقام دورات عديدة فى موضوعات الترجمة المُتخصصة، وأقام مؤتمرات دولية وقومية ابتداء من عامه الأول. وأذكر أن اسم المركز فى عامه الأول كان هو المشروع القومى للترجمة. وبعد أن أكملنا طبع الكتاب رقم: (ألف 1000) فى العام الأول، أقمنا مؤتمرًا دوليًّا دعونا إليه كل المشتغلين والمُهتمين بالترجمة إلى العربية فى أهم بقاع العالم.. وقد طلبتُ أن يتحول المشروع من مشروع قومى للترجمة إلى مركز قومى للترجمة. وبعد أسابيع قليلة صدر القرار الجمهورى بإنشاء المركز القومى للترجمة . وأذكر أننى فى اليوم الذى تركتُ فيه المركز القومى للترجمة وقَّعتُ على نشر الكتاب رقم ثلاثة آلاف، وانقطعت صلتى بالمركز منذ ذلك العهد فيما عدا أن وزراء الثقافة الذين جاءوا من بعدى قد أصروا على أن أكون عضوًا فى مجلس أمناء المركز، ولا أزال أعتز بهذه العضوية إلى اليوم. ولذلك ساءنى جدًّا أن أرى مديرة للمركز لا تعرف عنه شيئًا، ولم تُدرك أبعاد تاريخه وتاريخ العمل الطويل على إنشائه واستمراره شيئًا. فتحدثت عن أهداف جديدة للمركز وقواعد جديدة للنشر، وعن ضرورة شروط أن تحافظ مطبوعات المركز على القيم الدينية والأخلاقية، وأنا أتحداها أن تأتى لى بكتابٍ خرج فيه المركز على هذه الأشياء التى تقول فيها ما لا تعلم. ولقد دفعنى إلى الصمت أننى وجدتُ أغلب المثقفين المصريين يتصدون لتلك المديرة التى أخونت المركز القومى للترجمة . ولكن تعدد وكثرة الكتابات التى رأيتُها تدافع عن المركز، أصابتنى بالفرح وجعلتنى أؤمن بأن الثقافة المصرية لا تزال بخير، وأنها تضم من القادرين على الدفاع عنها ما يكسر أى قلمٍ كذوب. ولكنى فوجئتُ أثناء مراجعتى بعض الأمور مع بعض تلامذتى الذين علَّمتهم قواعد ومعايير العمل فى المركز بوقائع مُخيفة لا بد أن أتوجه بها إلى الصديقة العزيزة وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم ، فهى وقائع أغرب من الخيال. لقد وقَّعتُ الكتاب رقم ثلاثة آلاف, كما سبق أن ذكرتُ وأنا خارج من المركز, والآن وبعد مُضى تسع سنين أُفاجأ بأن المركز القومى للترجمة أصدر كتابه الأخير برقم 3500 - هذا إن صح قول رئيس قسم المطابع، الذى أخبرنى بهذه المعلومة - وكان اندهاشى بالغًا. هل يُعقل أن لا يُترجم المركز ما يصل إلى خمسمائة كتاب فى تسع سنوات؟! وهل يعقل أن إنتاج المركز فى تلك السنوات التسع التى تركتُ فيها المركز هو بمعدل ما يقرب من خمسين كتابًا فى العام بعد أن كان يُصدر فى العام الواحد ما يقرُب من ألف كتاب؟! ما الذى يمكن أن نُسمى به ذلك؟! هل هو كسل، أم فساد، أم استهتار؟ وهل الخوف قد منع المديرين الذين تعاقبوا على المركز من المُضى فى الخطة الموضوعة، ولم يكن هناك ما يجبرهم على إبطاء الإيقاع حتى إذا استثنينا ثورة 2011؟ (وللمقال بقية....). نقلا عن صحيفة الأهرام