د. نوال السعداوي تفزع بعض الحكومات العربية والحكومات خارج الوطن العربى (خاصة الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية) من أى ثورة شعبية، تعدل الموازين المقلوبة والمقاييس المختلة. بعض هذه الحكومات (المتعاونة داخليا وخارجياً) المتمرسة فى عمل انقلابات ومؤامرات ضد الشعوب، تفهم لغة المؤامرات فهماً علمياً محكماً، لكنها تصاب بالفزع والتخبط والجهل، فى مواجهة ثورة يقودها الشعب بنفسه، كما حدث مثلا فى تونس عام 2011 . وأنا مثل نساء ورجال ، كثيرين ، أنظر الى الثورة التونسية نظرة إعجاب شديد، لكونها تتخطى الانتكاسات بمهارة نادرة، وقادرة على لم الجراح بسرعة، واستعادة عافيتها على الدرب الذى بدأته . مرت وتمر الثورة التونسية بالكثير والعديد من الصعاب، لكنها ستكون قادرة دائما على الانتصار، رغم كل المناورات والتآمرات من داخل الوطن العربى وخارجه. سوف تنجح هذه الثورة الشعبية، لأنها تشمل النساء والرجال والشباب والأطفال، تلاميذ المدارس من الابتدائية إلى الجامعة، ثورة قام بها الشعب التونسى رافعاً شعارات الحرية الكرامة العدالة، شعارات تشمل القيم الإنسانية التى تساوى بين المواطنين، بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو الطبقة أو الحزب السياسى أو اللغة أو اللون أو غيرها. هذه الشعارات النبيلة العليا، التى تسعى لتحقيق العدالة السياسية الاقتصادية الاجتماعية الثقافية الأخلاقية، وترتفع فوق كل الهويات الضيقة أو الانتماءات العرقية الدينية الحزبية الأبوية الذكورية الجنسية. هذه العدالة والحرية والكرامة للجميع، نساء ورجالاً، صغاراً وكباراً ، هى التى تميز الثورات الشعبية عن الحركات العنصرية التى تقوم بها الجماعات الدينية أو العرقية الإثنية، أو الحركات السياسية التى يقودها رجال الأحزاب والجماعات المسيطرة بحكم القوة الاقتصادية الطبقية أو الثقافية أو الجنسية. ارتفعت أصوات الملايين من الشعب التونسي، بثلاث كلمات هزت القلوب والعقول: الحرية الكرامة العدالة ، يا لها من كلمات ثلاث بصوت الملايين، نساء ورجالا، أطفالا وشبابا، تلاميذ وتلميذات. الضمان الوحيد لنجاح ثورة تونس هو حماية الشعب كله لها، نساء ورجالا وشباباً، بحيث لا تجهض الثورة الشعبية، بالقلة المتمرسة داخلها على إجهاض الثورات، القلة من النخب الثقافية الأبوية الطبقية داخل كل بلد، القلة التى تخترق صفوف الشعب تحت اسم المعارضة أو الإصلاح السياسى أو الاقتصادى أو الدينى أو الوطنى أو القومى أو غيرها. هذه القلة المتدربة تاريخيا ً على القفز على الحكم الجديد تحت اسم الحكومة الانتقالية، أو إنقاذ الثورة الشعبية من الفوضي. رأينا فى تونس اليوم، كيف تعمل النخب القديمة، على التسلل والسيطرة، لإجهاض التقدم فى الثورة، وزيادة مكتسباتها. لكن الشعب التونسى الواعي، (نساء ورجالا وشباباً) ، خرج إلى الشوارع مرة أخري، كاشفاً المناورة الخفية، طارداً النخب الانتهازية من مشهد المستقبل. لكن ما زالت هناك المناورات والتآمرات الداخلية والخارجية تعمل معاً، للقضاء على الثورة الشعبية التونسية، أو اقامة العثرات أمام منجزاتها . لقد لعبت المرأة التونسية المناضلة، وما زالت بقوة واصرار ووعى ، ترسم تونس الجديدة، وبدأت أعداد متزايدة من النساء، يتقدمن الى الصفوف الأولى فى الادارة والسياسة والثقافة. ولكن هذا ليس كافيا لضمان عدم الانتكاسات أو التراجع. لقد رأينا كيف أن النساء الثوريات ، بعد أن يصبحن جزءا من النظام الجديد، يبدأن فى تبنى السياسات التى تتماشى مع المصالح الطبقية الذكورية الدينية العنصرية. حدث هذا فى الدول العربية، وأوروبا وأمريكا. واذا نظرنا الى القيادات الثورية فى بلادنا والعالم ماذا نري؟ . ألم يتحول الوزراء الاشتراكيون، إلى رجال أعمال رأسماليين بمجرد الجلوس على الكرسي؟. ألا يغير الكرسى من المبادئ التى يؤمن بها الرجل أو المرأة؟ . ألم يخلع الرئيس التونسى المخلوع (بن علي) رئيسه السابق الحبيب بورقيبة، تحت اسم ثورة التصحيح الديمقراطية الشعبية؟. منذ تولى بن على الحكم فى تونس، زادت الحكومة شراسة، وتنمرا، تحت اسم الديمقراطية . بالضبط كما حدث منذ عصر أنور السادات، فى مصر مع الانفتاح، على بضائع أمريكا وإسرائيل. تم اعتقال أو نفى ، أصحاب الفكر الإبداعى الحر خارج البلاد وداخلها، الخديعة الطبقية الأبوية الاستعمارية، تحت اسم الديمقراطية والليبرالية الجديدة . أنا مثلاً دخلت سجن السادات فى سبتمبر 1981 . وطوال عهد «بن على» لم ادخل تونس، كنت أتلقى دعوات من الشعب التونسي، نساء ورجالا ، قرأوا كتبى ورواياتى ، يأتون بالآلاف لسماع محاضراتي، فى إحدى المرات تعطل المرور فى تونس بسبب الزحام على المحاضرة، مما دعا المنظمين الى تغيير وقتها ومكانها، فاستقل الناس القطارات لحضورها فى جامعة القيروان. كان ياسر عرفات يومئذ، فى اجتماع بتونس مع قيادات عربية، منهم وزير الإعلام فى عهد عبد الناصر، قال لى محمد فائق: كانت محاضرتك حديث تونس، وياسر عرفات قال إن شعبيتك فى تونس، مثل أم كلثوم. حتى أصدر بورقيبة (قبل سقوطه فى 1987) قراراً بمنعى من دخول تونس. قلت فى حديث للتليفزيون التونسي، إن الحركة النسائية النضالية عبر القرون، هى التى تحرر النساء وليس الحاكم الفرد (بورقيبة حينئذ). سمع بورقيبة هذا الحديث (صدفة فى التليفزيون) فإذا به يفصل رئيس التليفزيون من منصبه. كان بورقيبة، يعتبر نفسه المحرر الوحيد لنساء تونس، كيف يسمح رئيس التليفزيون لمخلوق أو لمخلوقة، أن تسلب الحاكم من حقه، المسجل فى التاريخ الوطنى ومناهج التعليم؟ . نشرت الصحف المغربية، خبر فصل رئيس التليفزيون بقرار من بورقيبة ذاته، كاشفة عن ديمقراطية زائفة. من يضمن استمرار الثورة التونسية ، لتحقق الحرية والكرامة والعدالة، لنساء تونس ورجالها بالتساوي؟ . كم مرة شاركت النساء فى الثورات الشعبية (الثورة الجزائرية، الفلسطينية، المصرية، اللبنانية، السودانية وغيرها من الثورات)، وما إن استقر الحكم الجديد ، حتى نشطت الفيروسات الرجعية الذكورية ، لتفتك بالجسد الجديد. نقلا عن صحيفة الأهرام