تركت دولة المماليك المصرية بصمة معمارية، تكاد تتفوق على ما أنجزته سياسيًا واجتماعيًا وحربيًا خلال أكثر من قرنين ونصف القرن حكمت خلالها مصر، والتي ربما قد تخفف في الوقت نفسه من وطأة ما ارتكبته من فظائع في حق الشعب خلال فترات الاضمحلال التي تخللت دولتها، لكن هذه العمارة المدهشة، والصامدة لما يزيد على سبعة قرون، تعاني كثيرًا بسبب تعرضها المستمر للإتلاف العمدي أو العشوائي بالإضافة للسرقات الممنهجة. وهو الأمر الذي دفع المؤسسة المصرية لإنقاذ التراث ، متعاونة مع وزارة السياحة والآثار، وبتمويل من صندوق الحفاظ على التراث التابع للمجلس الثقافي البريطاني، للاضطلاع بمهمة إنقاذ وترميم المنابر المملوكية بالقاهرة. توثيق الجمال حوار عبد الحميد شريف لبوابة الاهرام كان مسجد السلطان أبو العلا، وهو أحد أشهر المعالم الأثرية في منطقة وسط القاهرة، المحطة الأخيرة في مشروع الترميم الذي استغرق عامين، وساهم في إنقاذ نحو 43 معلمًا أثريًا مملوكيًا، بحسب د.عبد الحميد شريف، رئيس مجلس أمناء المؤسسة المصرية لإنقاذ التراث ، الذي أوضح أن العمل في المشروع تخلله عدة مراحل، لم تستهدف الترميم وحده، حيث إنه اشتمل على توثيق هندسي لتفاصيل كل منبر على حدة، بما يحتوي عليه من حشوات وتطعيما وغيرهما، ثم قمنا بتوثيقه فوتغرافيًا لصناعة كتالوج مصور يوضح جميع تفاصيل وقياسات المنبر، بالإضافة إلى التوثيق التاريخي والأثري. ترميم المنابر المملوكية بالقاهرة وتخلل المشروع كذلك إعداد دراسة حول القيم الجمالية والمعمارية والدينية والاجتماعية للأثر، للمساعدة في فهم القيمة التي تحملها هذه المنابر وأهم ما يميز كل منها، ثم قمنا بإعداد دراسة لتقييم الحالة الراهنة، وهي دراسة وتوثيق لكافة مظاهر التلف والعوامل المسببة لهذه التلفيات لمحاولة حلها، ودراسة تقييم الخطورة وهذه الدراسة تحديدًا لم تقتصر على المنابر فقط وإنما للمكان الموجود فيه المنبر والمحيط السكني الواقع فيه المسجد، وذلك لتحديد مصادر الخطر الرئيسية التي تشكل تهديد على المنبر ونقاط الضعف التي تؤثر عليه سلبا، ومن هذه الدراسات نتجت دراسة درء المخاطر، لمحاولة حل كل تلك المشكلات التي تهدد المنبر. إعادة القيمة ترميم المنابر المملوكية بالقاهرة وقد ساعدت الأبحاث التي جمعتها المؤسسة في قاعدة بيانات رقمية مطورة لترفعها بعد ذلك لوزارة السياحة والآثار، في تحديد حالة كل منبر من حيث الأولوية في الترميم، سواءً كان ترميمًا كاملًا أو صيانة أو إزالة لمظاهر وعوامل التلف، حيث تم بالفعل ترميم نحو 14 منبرا مملوكيا من أصل 43 تم العمل علي توثيقها. وقد خضعت قياسات الأولوية التي أجراها المشروع إلى دمج المنابر داخل في معادلة تم تطبيقها لأول مرة وهي تشمل قيمة المنبر، فعلى الرغم من أهمية جميع المنابر إلا أن هناك تباينًا في قيمة ومزايا كل منهم، ثم تمت دراسة الوضع الراهن لكل منهم، وتقييم المخاطر، لضمان التدخل السريع للمنابر التي تعاني خطر الفقد الجزئي أو التام، والتأثير الاقتصادي،؛ حيث إن بعض المنابر تكون قبلة للزيارات ما يمثل عائدا مهما ل وزارة الآثار . ترميم المنابر المملوكية بالقاهرة ويشرح د.عبد الحميد الشريف، الذي عمل محاضرًا في أكثر من جامعة عالمية حول ترميم الآثار، أن أبرز المشاكل التي تعانيها المنابر تتمثل في تعرضها للحريق والسرقات وعدم الثبات الإنشائي للمبنى نفسه، بالإضافة إلى الاحتكاكات نتيجة المصلين أو العامين بالمسجد، وقد تمت معالجة ذلك في الكثير من المنابر، منها مثلًا منبر مسجد السلطان أبو العلا الذي كان مهددًا بالسرقة والإتلاف فتمت إضافة حماية زجاجية مصنوعة خصيصًا بحيث لا تعوق رؤية المنبر وتحميه من السرقات والاحتكاكات المختلفة. وتمثل الحرائق أيضًا مهددًا رئيسيًا لكثير من المنابر، وذلك لأنه أحيانا ما تمر خطوط الكهرباء والصوت من داخل المنبر نفسه، ما يشكل خطورة مباشرة عليه من وقوع حدوث ماس كهربائي مفاجئ، فكان الحل فصل جميع تلك الخطوط بحيث وعزلها تمامًا عن المنابر، أيضًا تتعرض العديد من المساجد لخطر الحرائق من الخارج نتيجة للأنشطة التجارية الدائرة حول العين الأثرية، حيث إن النوافذ كبيرة فتسمح بنفاذ الحريق من الخارج إلى الداخل. وحيث إنه لا يمكن التحكم في الأنشطة الدائرة حول المسجد، فقد لجأ المرممون إلى إضافة ستائر مؤطرة للنوافذة، وهي عبارة عن أطر خشبية بها نسيج معين مرشوش بطبقتين من مواد مؤخرة للحريق لمدة 120 دقيقة، وتستطيع أن تحجب النيران عن المسجد لوقت كافي، وأخيرًا تم تركيب كاميرات مراقبة تعمل على مدار ال24 ساعة يشرف عليها موظفي الآثار والأوقاف. ترميم المنابر المملوكية بالقاهرة ولأن العديد من تلك المنابر تعرضت للسرقات بالفعل، فإن الضامن الوحيد للحد من تلك السرقات بحسب د.عبد الحميد هو وجود وثائق لتلك الآثار، تضمن خضوعها للاتفاقيات الدولية التي تجرم سرقتها. ويلفت رئيس مجلس إدارة المؤسسة المصرية لإنقاذ التراث إلى أن السرقات لا تتم عادة عن وعي بقيمتها الحقيقية، وغالبا ما يقوم بعض العاملين بسرقة القطع لتضمينها مشغولات خشبية منزلية! وهو ما ستسهم كاميرات المراقبة والحماية الزجاجية في الحد منه. صياغة جديدة للقيمة الفنية ترميم المنابر المملوكية بالقاهرة تأسست المؤسسة المصرية لإنقاذ التراث تأسست في العام 2013 بهدف تعزيز وحماية التراث الثقافي المصري والإقليمي، وقد كانت مهمتها الأولى تقديم وتصميم دورات تدريبية للمتخصصين من العاملين بالقطاع الحكومي والمؤسسات المعنية في مجال الاستعداد للمخاطر والإنقاذ السريع للتراث الثقافي في حالات الكوارث والأزمات، لذلك لم ينصب عملها خلال المشروع حد ترميم الأثر وتوثيقه، وإنما في تطوير قدرة القائمين الفنين على صياغة ذلك عصريًا في الأعمال الفنية والمشغولات والتصميمات الهندسية التي يبتكرونها، عبر مبادرة حملت عنوان "جديد من قديم" كجزء من المشروع هدفها توظيف وتوثيق زخارف تلك المنابر بشكل معاصر، وهو ما يوضحه الشريف قائلًا: "دائمًا ما نفكر في كيفية إشراك المجتمع في المشروع، فكان هدفنا رفع الوعي المصري بالتراث الثقافي وتقديم فهمًا أكثر عمقًا لمكوناته، وبعد أن قمنا بجميع التوثيقات السابق ذكرها، أصبح لدينا كم كبير من الزخارف الهندسية والإسلامية ودراية أكبر بكيفية تحليل تلك الزخارف وفلسفتها وكيفية تداخلها، ووجدنا أن الكثيرين من المصممين يحاولون استخدام تلك الزخارف في أعمالهم وإضفاء ذاك الطابع الإسلامي عليها، لكنها لم تنفذ في غالبيتها بالطريقة السليمة، من هنا كانت الفكرة أن نتواصل مع تلك المؤسسات ونعرض عليم تدريبات مجانية لفهم جوهر هذه الزخارف والفلسفة الهندسية التي قامت عليها، وهو ما تم بالفعل، وقمنا كذلك بعمل دورات تدريبية مجانية لفهم معنى الوحدة الهندسية الخاصة بالزخارف والفن الإسلامي لعدد من الفنانين المتنوعين، وأنتجنا بالشراكة معهم العديد من التصميمات المتميزة على الأخشاب والجود والذهب والخيامية، وتم عمل معارض لتلك الأعمال، أحدها في مصر في الدرب الأحمر، واثنان في لندن بالتعاون مع السفارة البريطانية والمركز الثقافي البريطاني". ترميم المنابر المملوكية بالقاهرة حوار عبد الحميد شريف لبوابة الاهرام