د. سمير فرج عشت أجمل أيام حياتى فى مدينتى الحبيبة، معشوقتي، بورسعيد ، التى اعتاد أهلها، وأنا منهم، الاعتماد على الأسماك ، كغذاء رئيسي، حتى أن أشهى أطباقه كانت تحتل موائدنا لمدة خمسة أيام من كل أسبوع، بغض النظر عن القدرات المالية لكل أسرة، فكل منا يجد ما يناسب ميزانيته، من مختلف أنواع الأسماك الطازجة، فور دخوله سوق السمك الشهير بالمدينة. فقد اشتهرت مدينة بورسعيد بأسماك بحيرة البردويل ، من البورى والدنيس وسمك الموسى، حتى أن إسرائيل استغلتها خلال حرب الاستنزاف، لتصدير كامل إنتاجها لأوروبا، لارتفاع جودته، وبالتالى عائده. أما لأصحاب الدخول المحدودة، فتتوافر أسماك البحر المتوسط، بأنواعها،إضافة لمراكب الصيد، التى تبحر من بورسعيد فى رحلة صيد، لعدة أيام، وتعود بالخير الوفير،كما يعتمدون على صيادى الشباك،على طول شاطئ بورسعيد ، بدءاً من لسان ديليسبس، وحتى بوغاز الجميل، الذين يبدأون نشاطهم مع شروق الشمس، ويسحبون شباكهم المليئة بالخير، يحاوطهم صيادو أم الخلول. أما الغذاء الشعبي، الأقل تكلفة، فكان سمك الشبار، من بحيرة المنزلة، المتوافر فى ثلاث درجات, الشبارالمزقلط، صغير الحجم، ومع ذلك تحتل بطارخه نصف حجمه، ثم الشبار الأزرق، الأكبر حجماً، الصالح للشواء، وأخيراً الشبار الأبيض، للقلي، وهكذا توافرب بورسعيد أشهى أنواع الأسماك، المناسبة لكل الفئات. وفجأة تغيرت الأحوال، إذ جارت العشوائيات على هذه البحيرات، وتوقف تطهير بوغاز بحيرة البردويل ، وبوغاز الجميل لبحيرة المنزلة، والتى كانت مسئولة عن تجديد مياه تلك البحيرات، كل عام، بمياه جديدة من البحر الأبيض المتوسط، فزادت ملوحة هذه البحيرات، وانخفض، بالتالي، إنتاجها من الثروة السمكية، لكن أخطر التعديات كانت فى تجاوز، البعض، بإنشاء مزارع سمكية داخل البحيرات،على مساحات كبيرة،وقيام، البعض الآخر، بردم مساحات من بحيرة المنزلة، واستقطاع أجزاء كبيرة منها،لتصبح أوكاراً للخارجين على القانون، والهاربين من الأحكام القضائية. وفى أثناء فترات الانفلات الأمني، التى أعقبت يناير 2011، ضُرب عرض الحائط بالعديد من القرارات المنظمة للصيد فى البحيرات المصرية، ومنها قرار حظر الصيد، لمدة ثلاثة أشهر، من كل عام، فى بعضها، والذى كان يهدف لنمو الذريعة الصغيرة من الأسماك، كما تجاوز الكثيرون عن الالتزام بقرار حجم فتحات شباك الصيادين، حتى لا يسمح بصيد الأسماك الصغيرة. والحقيقة أننى لمست تلك التغيرات السلبية، بنفسي، فى آخر مرة توجهت فيها لسوق السمك، فى بورسعيد ، لشراء كمية تكفى استهلاك أسرتي، بالقاهرة، فوجدت السوق وقد تغيرت ملامحه للأسوأ، ولما سألت عن سمك الشبار، تلقيت نفس الإجابة، وكأن البائعين قد اتفقوا عليها مسبقاً، «انسى ...لقد ضاعت بحيرة المنزلة، فقد أصبحت مستقراً لنفايات المصانع، ومخلفات الصرف الصحي، من كل القرى، وتلوثت مياه المصارف المحملة بمخلفات الرى»، ولما سألت أين أسماك البردويل، علمت أن إنتاجها انخفض للغاية، وأصبح بالكاد يفى باحتياجات المطاعم الشهيرة. وعدت للقاهرة، فى ذلك اليوم، وأنا حزين على فقدان تلك الثروات المصرية، الكفيلة بتغطية حاجة جميع فئات المواطنين من البروتين. لم تكن تلك صدمتى الوحيدة، فقد صدمت مرة أخرى، فى الفيوم، فى العام الماضي،عندما توجهت لمنطقة البحيرات، لشراء الأسماك، فجاءتنى الإجابة بأن البحيرة، الآن، فى أسوأ حالاتها، وعز إنتاجها، بعدما صارت مصباً للصرف الصحي، والمخلفات الزراعية، المحملة بالمبيدات، فضلاً عن التعديات عليها، وتقليص حجمها بفعل عمليات الردم، واستقطاع مساحات منها للبناء العشوائي، وإنشاء المزارع السمكية، فأصابها ما أصاب بحيرات بورسعيد ، من ارتفاع الملوحة، وانخفاض الإنتاجية. فتحسرت على ذكرياتى فى الفيوم، التى أقمت فى معسكر بها، فى أثناء حرب الاستنزاف ، للتدريب على استخدام المركبات البرمائية، الجديدة، فى بحيرة قارون، فكنا، حينها، نستمتع بأجمل وجبات الأسماك، خاصة سمك موسى، الذى لم أجد له مثيلاً فى العالم، حتى يومنا هذا. وببعض البحث، علمت أن معظم بحيرات مصر، تعانى مما تعانيه منه بحيرات المنزلة، والبردويل، وقارون, تحتوى مصر على 11 بحيرة، يضم البحر الأبيض المتوسط خمس منها، هى مريوط، وإدكو، والبرلس، والمنزلة، والبردويل، مسئولة عن إنتاج 75% من إجمالى الثروة السمكية فى مصر... فلماأعلن السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي، أخيرا، إزالة التعديات على البحيرات المصرية ، قائلاً أنا هارجع البحيرات فى مصر كما كانت من قبل، ومش هنعمل مزارع سمك فى البحيرات، ولازم نرجع مياه البحيرات لنظافتها, مضيفاً أن هذا التطوير معنى بالقضاء على الفوضى والإهمال، رأيت أن ألفت انتباه المواطن المصرى لأهمية ذلك القرار الحيوي، لما له من آثار إيجابية على الاقتصاد المصري، إذن سيتيح المجال لاستثمارات جديدة، وكبيرة، ليس، فقط، فى مجال تصنيع، وتعبئة وتغليف الأسماك، وما يرتبط بها من صناعات مكملة، وإنما سيفتح آفاقا جديدة لصناعة الملح، الذى سيتم استخراجه من هذه البحيرات، فى مراحل تنقيتها، واستعادة عزوبة مياهها، إذ يعتبر الملح،أو كلوريد الصوديوم، واحداً من أهم الصناعات الاستراتيجية، ومدخلاً إنتاجياً لمعظم الصناعات فى العالم، فمثلاً يستخدم الملح بنسبة 67% فى الصناعات الكيمائية، وبنسبة 8% فى إذابة الجليد، ويستخدم فى مجالات الزراعة بنسبة 6%، وفى الصناعات الغذائية بنسبة 6%. وفى النهاية أؤكد أن مصر مليئة بالخيرات والإمكانات، لكن الأهم من ذلك هو حسن إدارة مواردها وثرواتها، وعزم إدارتها على تحقيق كل الخير لها ولأبنائها بإذن الله. نقلا عن صحيفة الأهرام