"الساحر" لقب لم يكتسبه الراحل محمود عبدالعزيز، لمجرد كونه حاملًا لعنوان فيلمه الشهير الذي قدمه في مطلع الألفية الجديدة، لكنه كلمة تلخص رحلة الفنان الثرية والغنية بالعديد من الأعمال التي وضع في كل منها بصمته الخاصة بأسلوبه وأدائه الخالص والمخلص، مخترقًا بذلك قلوب محبيه فاستحق بذلك لقب "الساحر". تركيبة خاصة لم تتكرر كثيرًا في حصاد الفن المصري بل إنه يمكن حصرها في نموذج الساحر والراحل نور الشريف فكلاهما بحث وفتش في نموذج المواطن المصري من البسطاء والطبقة المتوسطة فكانت التلقائية والبساطة عنوانهم في الأداء، مما جعلهما أكثر قربًا من مزاجية الجماهير. محمود عبد العزيز كانت قضايا الفقراء المحور الأساس في أعماله، حيث نجح الراحل بعد أعوام قليلة من بداية رحلته الفنية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، في التمرد على قالب "الفتى الوسيم" الذي كان من الممكن أن تسجنه فيه ملامحه الجذابة الهادئة، وبدأ في تغيير المسار بسرعة، ليصبح الرمز الأهم للتعبير عن قضايا الشباب، خاصة الفقراء منهم بكل متغيراتهم الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في المرحلة الجديدة التي بدأها المجتمع المصري عقب حرب أكتوبر 1973. محمود عبد العزيز أكثر ما يميز رحلة محمود عبدالعزيز، تفوقه في تقديم "الكوميديا السوداء" فلم يتخذ الضحك مجرد تسلية له بل هدفا يفتش في ثناياه بين الشائك والمتأزم ويتنبأ من خلاله بالمستقبل فقد خاطب في أعماله فئتي "الثلاثينيات والأربعينيات" هذه المرحلة العمرية التي ناقش فيها الفنان الكثير من الأزمات، والتي كان "الفقر" هو الخط الرئيس المحرك لأحداثها، مع اختلاف وتنوع الظروف. ولعل أبرز ما قدمه مثلًا في هذه المرحلة ثلاثيات أفلامه مع الراحلة معالي زايد، فمعها قدم الكثير من القضايا التي شغلت اهتمام المواطن مثل "الشقة من حق الزوجة" ومناقشته لقضية الانفصال بين الزوجين وماسيحدث بعدها من معارك نحو الاستيلاء على عِش الزوجية، وأيضًا فيلم "ساداتي آنساتي" وقضية العنوسة وكأنه كان يتنبأ بالقضية التي استفحلت في المجتمع في سنوات تالية للفيلم، هذا من جانب ومن جانب آخر ناقش الفيلم قضية استغلال فقر الموظفين حيث جسد الراحل في الفيلم قصة شاب حاصل على الدكتوراه يعمل (ساعيًا) بسيطا لزيادة دخله، وفي المصلحة الحكومية التي يعمل بها تقرر أربع موظفات معا الزواج منه، في وقت واحد للتغلب على أزمة العنوسة. محمود عبد العزيز كثير من الأعمال قدمها الساحر مع شركاء جيله نور الشريف وحسين فهمي ويحيى الفخراني، من أبرز هذه الأعمال فيلم "جري الوحوش" الذي جسد فيه شخصية رجل فقير، يتم استئصال جزء من مخه وزرعه في دماغ رجل آخر غني، يعاني عدم الإنجاب، وهناك فيلم "الكيف" و"العار" اللذان ناقش كل منهما قضية تجارة المخدرات بشكل يختلف عن الآخر وذلك في أوج انتشار أزمة الاتجار والتعاطي بالمجتمع في الثمانييات والتسعينيات من القرن المنصرم. عندما يذكر اسم محمود عبدالعزيز، الذي يتزامن ذكراه ميلاده اليوم، تقفز على الفور إلى الأذهان صورة الشيخ حسني، ذلك الضرير الفقير، الذي يأبى الاعتراف بإعاقته، وهو الدور الذي يكاد يكون ثمة إجماع بين النقاد، على أنه أهم أدوار عبدالعزيز في السينما على الإطلاق، فقد أضفى على أدائه مزيد من المصداقية والواقعية فهو الرجل الذي يتحدى إعاقته ويصر على مواصلة الحياة بعذاباتها وبهجتها، ويقود دراجته البخارية (الموتوسيكل) في واحد من أجمل وأهم مشاهد السينما المصرية على الإطلاق. محمود عبد العزيز ويعد فيلم "الكيت كات"، من أبرز المحطات الفنية، التي حصد عليها عبدالعزيز، العديد من الجوائز، أبرزها جائزة مهرجان دمشق السينمائي، والإسكندرية السينمائي، بالإضافة إلى أفلامه، "سوق المتعة"، و"الساحر"، و"القبطان"، و"العار"، و"الكيف"، التي حقق بها مرحلة جديدة من تميزه الفني. لم تكن الموهبة وحدها وراء تلك النجومية وهذا الألق في مشوار الفنان، بل صحبها الاجتهاد والدأب والحرص على التفاصيل الدقيقة جدا، فكان يذهب إلى ماسبيرو ليشاهد الأعمال التي يشارك فيها، أولاً بأول، في أثناء الإعداد لها وتصويرها، فقد نجح ابن الإسكندرية على البحر المتوسط الذي اكتشفه المنتج والمخرج الراحل، رمسيس نجيب في خلق أسلوب خاص به خلال تقديمه لأي شخصية يؤدي دورها، وذلك من خلال متلازمة نجاحه، التي تمثلت في "كراسات التحضيرات"، التي تحمل أكوادا خاصة بكل مشهد داخل العمل، وما يلازمه من ملابس وإكسسوارات وردود أفعال. محمود عبد العزيز التلقائية أحد المقومات التي لا يحملها إلا القليلون من زملائه، هذه الصفة لم تجعله محبوبًا فقط لدى جمهوره، بل امتدت حتى إلى العاملين البسطاء معه في مواقع التصوير، حتى بات الساحر صديقًا لهم طوال فترة تصوير أي عمل فني، حتى بعد فراقه يبقى محمود عبدالعزيز تجربة فنية ثرية، مليئة بالرؤى السياسية والاجتماعية، لم يتعكر صفو علاقة الحب بينه وبين الملايين من محبيه طيلة حياته. لم تكن الدراما التليفزيونية صاحبة النصيب الأعظم في مشوار النجم الكبير، التي بدأها بمسلسل "الدوامة" لكنه كان دائمًا صاحب بصمة خاصة فيها تجبر مشاهديه على متابعة العمل بترقب واهتمام كبير، ولعل نقطة التحول في مشوار الساحر بالتليفزيون ثلاثية مسلسه الشهير "رأفت الهجان" الذي يبقى سجلًا مشرِّفًا في تاريخ الأعمال الوطنية، ويلى ذلك مسلسلاته التي قدمها في العقود الأخيرة بالألفية الجديدة منها باب الخلق، جبل الحلال وآخرها رأس الغول، الذي تخطى فيه حاجز العمر والمرض، وقدم عملًا مزيجًا من الإثارة والتشويق بما حمله من مطاردات بوليسية ومغامرات. محمود عبد العزيز محمود عبد العزيز