لأن الوحدة الوطنية من أعظم إنجازات ثورة 1919، التى شكَّلت وجدان نجيب محفوظ، يبدو منطقيًا أن يعلى الكاتب الكبير من شأن الاندماج والتواصل بين المسلمين والمسيحيين فى مصر، دون مجافاة لمعطيات الواقع وتفاعلاته المعقدة. المنتمون إلى الدين الإسلامى هم المسيطرون على عالم نجيب محفوظ، ولا نعنى بذلك العائلات والأسر المسلمة، التى تهيمن على بطولة الأعمال الروائية والقصصية، حيث لم يقدم محفوظ عملاً واحدًا عن أسرة مسيحية، لكننا نشير إلى شبكة الصداقات والعلاقات الإنسانية، فالصلات القوية المتينة تقوم بين المسلمين دون مشاركة مسيحية. ينفرد رياض قلدس، فى "السكرية"، بخصوصية لا تجعله فحسب من أهم الشخصيات المسيحية عند نجيب، بل إنه أيضًا من أهم الشخصيات فى عموم هذا العالم، بمسلميه ومسيحييه. يعمل رياض قلدس مُترجمًا بوزارة المعارف، وهو مثقف وكاتب قصة، ومن الذين يسهمون فى تحرير مجلة "الفكر"، التى يكتب فيها كمال عبدالجواد. رياض ليس مسيحيًا متدينًا، لكنه يعبر عن طبيعة الهم المسيحى، ويعكس الهواجس والمخاوف التى لا تظهر إلا داخل البيوت المغلقة، ومن هنا أهميته فى الكشف عن المخبوء والمستور. ليست المسألة أن يكون رياض متدينًا حتى ينجح فى التعبير عن الشخصية المصرية المسيحية، فالأهمية الحقيقية فى انتمائه الكامل إلى المسيحيين، بما يقترب به من الوقوف على حافة الإيمان بفكرة القومية المسيحية: "إنى حر وقبطى فى آن، بل إنى لا دينى وقبطى معًا، أشعر فى أحايين كثيرة بأن المسيحية وطنى لا دينى، وربما إذا عرضت هذا الشعور على عقلى اضطربت. ولكن مهلاً، أليس من الجبن أن أنسى قومى؟ شئ واحد خليق بأن يُنسينى هذا التنازع، ألا وهو الفناء فى القومية المصرية الخالصة كما أرادها سعد زغلول، إن النحاس مسلم دينى، ولكنه قومى بكل معنى الكلمة أيضًا، فلا نشعر حياله إلا بأننا مصريون لا مسلم ولا قبطى، بوسعى أن أعيش سعيدًا دون أن أكدر صفوى بهذه الأفكار، ولكن الحياة الحقة مسئولية فى الوقت نفسه". مسيحية رياض قلدس لا تتجسد فى أداء الطقوس الدينية، لكنها تتحقق بتمامها فى الانتماء العاطفى والعقلى إلى جموع المسيحيين. وفديته الصحيحة تدفعه إلى تبنى رؤية قومية شاملة، قادرة على نفى وتجاوز المشكلة الدينية، لكن متغيرات السياسة هى التى تفسد الانسجام والتوافق. هل يخلو الواقع المصرى من تعصب دينى يمارسه المسلمون والمسيحيون معًا؟!. الإجابة الصادقة هى الإقرار بوجود التعصب، لكن الصورة لا تكتمل إلا بالتأكيد على أن هذا التعصب ليس السمة السائدة المسيطرة، ففى اللوحة جوانب متعددة. ثمة تعصب محدود غير أصيل، نابع من إدراك الاختلاف الدينى، وهو ما يمارسه البسطاء من الناس، كما يفعل الفلاحون أقارب زهرة فى "ميرامار"، فإذ تشير الخادمة الهاربة إلى مدام ماريانا اليونانية صاحبة البنسيون: "إنى أعمل هنا كما يعمل الشرفاء وأعيش من عرق جبينى!"، يعلق الصحفى العجوز عامر وجدى: "خيل إلىَّ أنهما يودان أن يصارحاها برأيهما فى المدام والبنسيون وتمثال العذراء، ولكنهما لا يستطيعان". "68". ينصرف الموقف السلبى أساسًا إلى ماريانا "الأجنبية"، والبنسيون كمكان غير لائق، أما تمثال السيدة العذراء فتابع – فى المنظومة السلبية – للمرأة والمكان. ليس لدى المسلمين موقف رافض للسيدة مريم، والأحكام الدينية والآيات القرآنية قاطعة فى تبجيلها. التعصب الحقيقى نجده عند عبدالوهاب إسماعيل فى "المرايا"، وهو تعصب سابق لانخراطه فى تيار الإسلام السياسى: "أذكر أن كاتبًا قبطيًا شابًا أهداه كتابًا له يحوى مقالات فى النقد والاجتماع فحدثنى عنه ذات يوم فى مقهى الفيشاوى فقال: - إنى ذكى مطلع حساس وذو أصالة فى الأسلوب والتفكير. فسألته ببراءة وكنت مغرمًا بالكاتب: - متى تكتب عنه؟ فابتسم ابتسامة غامضة وقال: - انتظر وليطولن انتظارك! - ماذا تعنى؟ فقال بحزم: - لن أشترك فى بناء قلم سيعمل غدًا على تجريح تراثنا الإسلامى جميع السبل الملتوية. فتساءلت بامتعاض: - أأفهم من ذلك أنك متعصب؟ فقال باستهانة: - لا تهددنى بالأكلشيهات فإنها لا تهزنى. - يؤسفنى موقفك. - لا فائدة من مناقشة وفدى فى هذا الموضوع، وقد كنت وفديًا ذات يوم، ولكنى أصارحك بأنه لا ثقة لى فى أتباع الأديان الأخرى!". تعصب عبدالوهاب لا يحتمل الشك، وهو يتعامل مع الكاتب القبطى الموهوب من منطلق حتمية عدائه للتراث الإسلامى!. لا ثقة عنده فى أتباع الأديان الأخرى كافة، وليس المسيحية وحدها، وفى المقابل فإن الموقف الوفدى الذى يمثله الراوى، ويعبر من خلاله عن الأغلبية العظمى من المصريين المسلمين، يختلف جذريًا. الفلاحون الفقراء البسطاء يشعرون بالاختلاف الذى ينتج ما يشبه التعصب، وعبدالوهاب إسماعيل متعصب متطرف بقدر ما هو انتهازى لا يوحى بالثقة، أما الأغلبية العظمى فليس عندهم إلا التسامح والبساطة فى التعامل. ولعل كمال عبدالجواد، فى "السكرية"، هو أفضل من يقدم صورة صادقة عن أسلوب التنشئة الاجتماعية التى تميز السواد الأعظم من المصريين المسلمين: "لا تؤاخذنى، فقد عشت حتى الآن دون أن أصطدم بمشكلة العنصرية، فمنذ البدء لقنتنى أمى أن أحب الجميع، ثم شببت فى جو الثورة المطهر من شوائب التعصب، فلم أعرف هذه المشكلة". وجود المشكلة هو العارض غير الدائم، والتسامح هو القاعدة المسيطرة. وفى دعاء أمينة، الأم المصرية التقليدية الطيبة فى "بين القصرين"، ما ينم عن المفهوم الذى نعنيه: "اللهم أسألك الرعاية لسيدى وأبنائى، وأمى ويسن، والناس جميعًا مسلمين ونصارى". أما راضية معاوية القليوبى، فى "حديث الصباح والمساء"، فقد تلقت عن أمها: "الغيبيات والخوارق وسير الأولياء وكراماتهم وأسرار السحر والعفاريت والأرواح الساكنة فى القطط والطيور والزواحف، والأحلام وتأويلها، وقراءة الطالع، والطب الشعبى، وبركات الأديرة والقديسين والقديسات". يتسع الإسلام "الشعبى" للأساطير والخرافات والأرواح والأحلام والطب البديل، فكيف لا يتسع لمعجزات وخوارق وبركات الأديرة والقديسين والقديسات؟!. ينشأ كمال فى أسرة لا تعرف التعصب، وتُلقن راضية تعاليم دين شعبى تسامحه بلا ضفاف، والأم فى قصة "المهد"، مجموعة "القرار الأخيرة"، تطوف مع طفلها: "بالأضرحة والمساجد الأثرية وبعض الكنائس وتكايا الصوفية، والأهرام، ودار الآثار الفرعونية والإسلامية والقبطية". المساجد مع الكنائس، والآثار الإسلامية مع القبطية، والتمييز غير وارد عند الجميع.