د. حاتم عبدالمنعم أحمد تعتبر الدراسات البيئية من المفهوم البيئي الشامل من أهم الاتجاهات العلمية الحديثة لدراسة وتشخيص أي مشكلة، وبدون المنظور البيئي الشامل يصعب الوصول لتشخيص أو تحديد دقيق للمشكلة، ومن ثم يصعب حل المشكلة بل تتفاقم المشكلات. وإذا رجعنا لقضية الجهاز الإداري في مصر يرى بعض المسئولين أنه تضخم أكثر مما يجب، وأن الموظف في مصر يخدم 22 مواطنًا فقط، في حين ترتفع هذه النسبة إلى نحو 140 في ألمانيا، وهنا يلاحظ أن التشخيص اعتمد على إحصاءات رسمية فقط، وأغفل المنظور البيئي الشامل، الذي له ثلاثة أبعاد أساسية تبدأ بالبيئة الطبيعية، كما خلقها الله سبحانه وتعالى قبل تدخل البشر، وتضم جغرافية المكان وخصائصه الطبيعية، وبعد ذلك هناك البيئة المشيدة أو التكنولوجيا التي صنعها الإنسان، وأخيرًا البيئة الاجتماعية للإنسان بعاداته وقيمه ومشكلاته ونظمه الاجتماعية والاقتصادية وغيرها. وإذا عدنا لقضية الجهاز الإداري في مصر، نجد أن مصر تصنف جغرافيا ضمن حضارات الأنهار، وهذا يعني اعتماد الحياة لحد كبير على رعاية النهر وخدمته وحمايته داخليًا وخارجيًا، وهنا يقول أستاذنا "جمال حمدان"، إن هناك وظيفتين مهمتين لأي حاكم مصري وهما: 1- ضبط النهر. 2- ضبط الناس. وضبط النهر يبدأ بعلاقات سياسية قوية بدول حوض النيل - كما نسعى الآن خارجيًا - ثم ضبط النيل داخليًا من خلال جهاز إداري ضخم يضم جيش من الخبراء والفنيين والعمال لحماية وتبطين جوانب النهر من أسوان إلى آخر أرض زراعية مع إقامة وتنظيف الترع والقنوات وإقامة السدود مع تنظيم الري والدورة الزراعية وخلافه، وهذا يستلزم "عمل الفريق" من خلال عدة وزارات للري والأشغال العامة والزراعة والمالية لتدبير الموارد اللازمة وعادة تكون من خلال الضرائب؛ ولذلك تم إنشاء مقياس الروضة في مصر القديمة من آلاف السنين لحساب مناسيب المياه ومدى تغطيتها لاحتياجات المزاعين. وفي ضوء ذلك تحدد الضرائب وتجمع وبعد ضبط النهر لابد من ضبط الناس، وهذا يستلزم وزارة داخلية قوية وكبيرة حتى لا يقوم مزارع بعمل تفريعة لمجرى النيل لمنع المياه عن من يليه في الأرض، ويتقاتل المزارعون على المياه، فهل كل هذه المسئوليات والوظائف مطلوبة لحضارة الأمطار مثل ألمانيا، ولذلك يقول حمدان وهو مفكر مصر الإستراتيجي الأول، إن الجهاز الإداري في مصر كان عنصرا رئيسيًا وأساسيًا في تاريخ الحضارة المصرية منذ نشأتها، وأن مصر منذ فجر التاريخ مجتمع حكومي يعتمد على جهاز إداري ضخم والحكومة وحدها هي التي تملك نظام العمل وزمام المبادرة في التنمية منذ نشأة الأهرامات، ولذلك نجد صور الموظف المصري على النقوش والآثار المصرية؛ مثل تمثال الكاتب وشيخ البلد. ويضيف حمدان، أن دروس الجغرافيا والتاريخ تؤكد أن رخاء مصر وتقدمها أو تخلفها مرتبط لحد كبير بالجهاز الإداري للدولة، وقصة سيدنا يوسف عليه السلام تؤكد ذلك، والمؤسف أن نابليون وغيره من مستشرقين أمثال لودفينج وشارل عيسوي ومورو برجر وغيرهم أشاروا إلى هذه الحقيقة، فيقول نابليون، إن أثر الإدارة والحكومة في مصر فعال ومباشر في التنمية بشكل يختلف تمامًا عن البلاد الأخرى، وأنه لو أتاحت له الظروف حكم مصر لاستطاع توفير نصف غذاء العالم من مصر، وللأسف كثير من المصريين لا يدركون أو يفهمون بيئة مصر كما فهمها بعض الأجانب!! ويرى حمدان أن دور الجهاز الإداري في مصر قد زاد بعد الانتقال من الري الحوضي للري الدائم، وبعد إنشاء السد العالي لحاجة الزراعة لتدخل أكبر من الدولة؛ ولذلك فالحكومة في مصر - يصفها حمدان - هي أكبر صاحب عمل عبر التاريخ، ويكاد يتحول العمل في مصر إلى مجتمع حكومي ويصبح للميري قداسته "إن فاتك الميري اتمرمغ في ترابه" والأرقام تؤكد ما سبق؛ حيث تقدر أجور موظفي الدولة عام 1952 في عصر فاروق قبل الاشتراكية بنحو 40% من ميزانية مصر؛ ولذلك يقول حمدان إن كل ما في مصر تقريبًا بنته الدولة، ومن إنجازات الحكومة من الأهرامات إلى السد العالي. وبجانب ما سبق فإن موقع مصر وسط العالم جعلها مطمعًا لسيطرة القوى الكبرى عبر التاريخ، وهذا يفرض عليها أن يكون لها جيش قوي كبير؛ لأنهم في رباط إلى يوم الدين، ولذلك فإن مراجعة تاريخ مصر تؤكد أن كل الإنجازات منذ تاريخ مصر القديمة إلى الحديثة مرتبط بالحكومة، وآخر مثالين عصر محمد علي؛ حيث امتلكت الحكومة كل شيء في مصر بداية من سلب الفلاح قسرًا لأراضيه الزراعية إلى الصناعات والتجارة وكل شيء في احتكار أقرب للشيوعية، وبعده كانت نهضة ناصر من خلال الدولة أيضًا، وبعده جاءت الخصخصة وما نعانيه منها الآن. ثم ننتقل بعد ذلك للبيئة التكنولوجية لمصر؛ وهي للأسف تختلف تمامًا عن التكنولوجيا الألمانية؛ بل للأسف أن التكنولوجيا الرقمية والحديثة بوجه عام، منتشرة في بعض الدول العربية أكثر من مصر؛ حيث يتم كثير من الإجراءات إلكترونيًا ولا يوجد عسكري واحد للمرور في أي شارع، والفارق واضح ولا يحتاج لإضافات. وأخيرًا البعد البيئي الثالث؛ وهو البيئة الاجتماعية وما تعانيه من مشكلات متعددة بداية من ارتفاع نسبة الأمية إلى الإرهاب والتضخم وارتفاع الأسعار وغيره من سلبيات يستلزم دور كبير من الدولة يمتد لحماية محطات المياه والكهرباء وخلافه، فهل هذا مطلوب في ألمانيا مثلا. ولذلك فالمقارنة غير صحيحة لأنها تغفل البعد البيئي، وللأسف يتكرر هذا كثيرًا مثل فروق أسعار الدعم أو الثمن الحقيقي للطاقة في مصر والخارج، فعلى من يقارن يرجع للبيئة بمفهومها الشامل للأبعاد الجغرافية والتكنولوجية والاجتماعية. ومن هنا خطورة اتباع نماذج ناجحة في بيئات أخرى وتطبقيها في مصر، دون مراجعة للبيئة المصرية أو الموافقة على نصائح جهات دولية أو أجنبية أو لخبراء مصريين حاصلين على شهادات أجنبية، دون مراجعة أو دراسة لبيئتنا المحلية. ومن هنا أهمية تدريس كتاب "شخصية مصر" ل"الدكتور جمال حمدان"؛ كمقرر إجباري لجميع طلبة الثانوية العامة للتربية الوطنية، كما أقترح ضرورة اجتياز اختبار تأهيلي قبل العمل في أي مركز حكومي، وخاصة للقيادات يركز فيه على خصائص ومستلزمات البيئة المصرية؛ لأن التشخيص الخاطئ للمشكلات سيؤدي إلى تفاقمها ومزيد من التدهور، مع إعطاء اهتمام أكبر بالدراسات البيئية بداية من المدرسة للجامعات، وعلى كل المستويات.. والله الموفق.