إن محاولة إنجاز عمل ما في مؤسسة حكومية غالبًا ما قد يصاحبه ملل وضجر من فرط الانتظار والزحام وتعقد الإجراءات، لكنها قد تكون فرصة للحوار وتبادل الخبرات مع الآخرين.. الصدفة قادتني للجلوس إلى جوار شابين عادا لتوهما من تقديم أوراقهما المرفقة بشهادات خبراتهما في ملتقى التوظيف في الجامعة الأمريكية، حيث تم الإعلان عن 17 ألف فرصة عمل للشباب.. أحدهما بدا متفائلًا ويرى أن "كوبه" مملوءة إلى نصفها.. غير أن الآخر نظر فقط إلى نصف الكوب الفارغ.. وهكذا، المتشائم يرى الصعوبة في كل فرصة، أما المتفائل فيرى الفرصة في كل صعوبة.. قادني الحوار معهما من قبيل زرع الأمل والتفاؤل وطرد اليأس والتشاؤم، إلى تأكيد أولًا أنه قد مضى زمن الدولة التي تضمن فرصة التعليم والوظيفة مدى الحياة، وأن الإنسان مطلوب منه أن يطرق أبواب الأمل والتفاؤل، حتى وإن وجدها في عالم الحيوان! فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها يأخذها. هذا الحوار ذكرني بقصة شهيرة ومتداولة بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتتكرر في كتب التحليل النفسي، كدليل على أهمية "الأمل والتفاؤل".. بطل هذه القصة، هو الدكتور كيرت بول ريشتر، المتوفى عام 1988، وكان عالمًا للأحياء والوراثة في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية. ففي خمسينيات القرن الماضي، أجرى ريشتر تجارب نفسية على الفئران، ليدرس مدى قدرتها على برمجة سلوكها.. إحدى تجاربه كانت إحضار مجموعة من الفئران، ووضع كل منها في إناء زجاجي كبير ممتلئ لمنتصفه بالماء.. الإناء الزجاجي كبير حتى لا يستطيع الفأر التعلق بمخالبه أو القفز خارجه.. لقد قام ريشتر بحساب الوقت الذي سيستمر فيه كل فأر في السباحة ومحاولة الخروج قبل الاستسلام للغرق.. وكما أن هناك اختلافًا بين قدرات البشر، ومدى تحملهم وقدرتهم على المقاومة، بالطبع كان هناك اختلاف بين كل فأر وآخر، لكن في المتوسط كان الفأر يحاول لمدة 15 دقيقة تقريبًا ثم يستسلم للغرق.. أعاد ريشتر التجربة لكن مع إدخال بعض التغييرات.. كان عندما يرى الفأر في لحظاته الأخيرة، وأنه على وشك الاستسلام، كان يقوم بإخراجه من الإناء وتجفيفه ويتركه يستريح لبعض الوقت.. ثم يضعه مرة أخرى في الإناء! فعل ذلك مع كل الفئران، ثم أخذ يحسب متوسط الوقت في المرة الثانية.. تذكر أن المتوسط الأول كان 15 دقيقة تقريبًا.. كم تتوقع أن يكون متوسط الوقت في المحاولة الثانية؟ أكثر من 60 ساعة!!.. ساعة وليس دقيقة!.. وهناك فأر استمر لمدة 81 ساعة تقريبًا!! تحليل التجربة في رأى علماء النفس، هي أن الفئران في المحاولة الأولى فقدت الأمل بسرعة، بعد أن تأكدت أنه لا سبيل للخروج.. في حين في المرة الثانية كان لديهم خبرة سابقة، بأنه هناك أمل، وأنه في أي لحظة قد تمتد لهم يد العون لتنقذهم، لذا استمروا أكثر في انتظار تحسن الظروف. وبعيدًا عن هذه التجربة ونتائجها، هل تعلم أن بيت الفئران ربما يكون له مدخل واحد، لكنه له مخارج عدة، المؤكد أن تعدد المخارج تحسبًا للنجاة، وفرارًا من أي محاولة قد تغلق أمامهم باب الأمل في الحياة!! بغض النظر عن التحليل المذكور لنتيجة التجربة، وما يقولونه عن أهمية الأمل.. هناك نقطة بالغة الأهمية، ألا وهى مدى ارتباط القدرة الجسدية بالحالة النفسية.. فقد ينام شخص ما عدد ساعات كاف من النوم، ومع ذلك لا يريد الاستيقاظ للذهاب للعمل ويشعر أنه ليس لديه طاقة لذلك! في حين أن شخصًا آخر قد ينام ساعة واحدة، ثم يقفز من سريره بسرعة للتحضير لحقيبته وأوراقه للحاق بمحاضرته في الجامعة! وهكذا، قد تجلس أمام جهاز الكمبيوتر لإنجاز عمل ما، برغم أنك قد تضع إلى جانبك، كما اعتدت فنجان القهوة أو كوب الشاي، لكنك تظن أنه ليس لديك قدرة على العمل، وليس لديك ما يكفي من الطاقة، فتنهض من أمام الجهاز وأنت في حالة إنهاك نفسي.. الحقيقة أنك لديك ما يكفي من الطاقة ويزيد؛ لكنك فقط ليس لديك رغبة في العمل على ما هو مطلوب منك في تلك اللحظة.. لكن أين تكمن المشكلة؟ المشكلة أن ذهنك يفرض قيودًا على قدرات جسدك.. أو على الأقل يوهمك بوجودها.. تتفاقم المشكلة، حين تستسلم لذهنك وترضى باليأس من قدراتك.. الأخطر من ذلك أنك حين تيأس من تحقيق حلمك أو إنجاز عملك، قد تفقد حلمك، وهذا ربما يؤدي إلى تحريك مشاعر وعواطف أخرى مثل الاكتئاب والإحباط.. قد لا تتحقق فرصة العمل التي يحلم بها كلا الشابين، حتى المتفائل منهما، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون مدعاة لفقد الأمل والتفاؤل.. فربما بدأ المتفائل منهما مشروعًا بسيطًا بمبالغ زهيدة، حتى وإن تعثر مرة ومرة، فغالبًا سينجح، طالما يمتلك ناصية الأمل والتفاؤل، وروح الإصرار والتحدي لتحقيق حلمه..