أصبحت الاحتجاجات التي يشهدها العراق الشقيق، والمستمرة من قرابة شهر حتى الآن، تمثل قلقًا بالغا لدول الجوار، خصوصًا وأن بلاد الرافدين تجاور دول إقليمية قوية ومؤثرة في القرار السياسي العالمي، مثل إيران وتركيا والسعودية، فضلا عن الكويت وسوريا، واكتسبت أهمية عالمية بعدما واجهت الحكومة العراقية الاحتجاجات بالقمع الشديد، وقالت مفوضية حقوق الإنسان في العراق إن عدد القتلى وصل إلى 13 متظاهر فضلا عن مئات المصابين. وظهرت التأثيرات الخارجية، من دول إقليمية وعالمية، على الداخل العراقي بسبب تلك المظاهرات، فقد وقعت حرب كلامية بين إيران وأمريكا بخصوص المظاهرات التي انفجرت بشكل عفوي، دون ترتيب أو تخطيط مسبق، حيث ردت السفارة الأمريكية في بغداد بإشارات إيجابية على مقترح تقدم به إياد علاوي نائب رئيس الجمهورية، وزعيم ائتلاف الوطنية، بتشكيل حكومة إنقاذ وطني فيما رفضت معظم القوى الشيعية المقترح ومن قبلها إيران التي رفضت المقترح متهمة واشنطن بالتحريض على تأجيج التظاهر والتسبب في عدم الاستقرار بالعراق. وازداد الجدل حول مسودة مشروع إياد علاوي، عقب وصولها إلى القوى السياسية العراقية، فضلا عن عدد من سفارات الدول الأجنبية في بغداد ومن بينها السفارة الأمريكية، ما تسبب في اتهام علاوي بإشراك قوى أجنبية في الشأن الداخلي العراقي، ورد الأخير على ذلك ببيان، أكد فيه أنه لم يرسل مشروعه لسفارة واشنطن، بيد أن مشروعه يكشف عن توجهه الرافض أصلا لنتائج الانتخابات التي أفرزت تسيد تحالف "سائرون" بقيادة مقتدى الصدر أغلبية مقاعد البرلمان الجديد، خصوصًا أنه طلب من حيدر العبادي رئيس الوزراء بتنفيذه إلا أن الأخير تحفظ على الرد أو التعليق على المشروع. ويتضمن مشروع تشكيل حكومة الإنقاذ إلغاء مجلس النواب ومجالس المحافظات، وتعليق العمل بالدستور، وتشكيل حكومة تضم شخصيات سياسية خارج توافقات الأحزاب الحاكمة، وتتولى إدارة شؤون البلاد لمدة سنتين، وتهيئ لانتخابات تشريعية في ضوء قانون انتخابي جديد، ودستور جديد يتم التوافق عليه بعيدا عن ضغوطات القوى السياسية التي تتحكم في العملية السياسية على مدى 15 عاما مضت. ونشرت صحف عراقية، معلومات مسربة من داخل السجون العراقية تفيد بأن عناصر أمنية مرتبطة بأحزاب نافذة أجبروا ناشطين اعتقلوا من ساحات الاحتجاج على التوقيع على اتهامات خطيرة نسبت لهم وأنهم ربما يواجهون أحكاما قاسية تصل إلى السجن المؤبد. ويقف مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، في صف المتظاهرين، وعبر عن ذلك خلال عدة مواقف هاجم فيها الحكومة بسبب امتعاضه من قمع المتظاهرين داعيا السلطات إلى الكف عن ذلك، وقال في تغريدة أمس الجمعة، على موقع التدوينات المصغرة "تويتر"، مستنكرا ما حدث. وانطلقت تظاهرات مدن الجنوب العراقي، قبل حوالي 20 يومًا، وعنوانها الرئيس المطالبة بأساسيات ثلاثة، هي "الماء والكهرباء وفرص العمل"، وبعض الساخرين يضيفون لها الوجه الحسن من باب "شر البلية ما يضحك"، لكن المطالب الأساسية تليها قائمة طويلة من المطالب المتراكمة من أيام سقوط بغداد عام 2003، والتركة الثقيلة لنظام صدام حسين، غير إن الواقعيين يأملون في التركيز على مشاريع الكهرباء والماء والصحة والتوظيف. وكثير من العراقيين يثيرهم ما يسمعون من أخبار عن تطور صناعة الكهرباء في مصر، والإنجازات التي تحققت في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي في مجالات الطاقة المختلفة، ويحتفظون بمعلومات جيدة عن نشاط شركة سيمنس، وإنشائها أكبر محطات كهرباء في العالم، في العاصمة الإدارية الجديدة وبني سويف، ودمياط، ومدن على البحر الأحمر ومحافظات أخرى كانت تعاني منذ فترة من أزمة في الكهرباء عام 2014؟، ويتمنون في الوقت نفسه أن يتكرر النموذج في بلادهم التي تعيش في الظلام وتعاني أزمة كهرباء حادة منذ بداية شهور الصيف. وعلى الرغم من الاتهامات الموجهة إليها بالتقصير، إلا أن الحكومة العراقية تحاول جاهدة أن تلبي ما تستطيع من المطالب، وقد شكل رئيس الوزراء حيدر العبادي خلية أزمة تضم عددا من الوزراء وربط بها لجانا خاصة في المحافظات، التي تشهد التظاهرات الاحتجاجية لحصر المطالب، والعمل على تلبيتها بسرعة ومتابعة تنفيذها وعدم التهاون في ذلك خاصة مع تصاعد حدة التظاهرات، والصدام المحدود حتى اللحظة مع قوات الأمن التي تسبب الصدام معها الى مقتل 13 متظاهرا وجرح المئات وتخريب بعض المؤسسات، مع حديث عن وجود أشخاص مندسين مهمتهم العمل على تشويه سلوك الأغلبية من المتظاهرين ببعض الأعمال المنافية للقانون. لكن بعض الناشطين يتهمون مجموعات مسلحة شيعية بقمعهم، ويبدو الاتهام جاهزا في كل اتجاه، فإيران المنزعجة من تطور الأحداث في العراق بعد الانتخابات الأخيرة، تحاول جاهدة منع تحالف سياسي يمكن أن يؤدي إلى تشكيل حكومة مناهضة لها، وقريبة من محور شيعي تشكل مؤخرًا يرغب بتقارب مع الولاياتالمتحدة، وعدد من دول الخليج، وهو ما عزز الانقسام داخل التحالف الوطني، الذي كان على الدوام موزعا بين قوتين هما تحالف دولة القانون وقوات الحشد الشعبي، وتيار مقتدى الصدر، الذي دعم إصلاحات أساسية في الحكم وحقق تقدما في الانتخابات الأخيرة بالتحالف مع قوى مدنية وتبقى بعض القوى الشيعية التي لا تدخل طرفا في المواجهة ولكنها تنتظر إلى أين تنتهي الأمور لتقرر وجهتها المقبلة. ويذكر محللون، أنه في كل تظاهرات في العراق، تتوزع الولاءات والاتهامات، وتنسب الوقائع لهذه الجهة، أو تلك الوقوف خلفها غير أن المؤكد في الشأن العراقي، أن انشغالات الحكومة في ملفات الحرب ضد التنظيمات الإرهابية والتدخلات الخارجية، وعدم جدية بعض القوى في دعم الحكومة، جعل من الصعب تلبية متطلبات حياة طبيعية للسكان، في قطاع الكهرباء خاصة والماء، وهي حاجات ملحة مع قدوم كل فصل صيف ساخن، في هذا البلد وهو ما يبرئ ساحة الغالبية من المتظاهرين الذين خرجوا للمطالبة بحقوقهم، وليس لتنفيذ أجندات خاصة لهذه الجهة أو تلك. وبالطبع فإن القوى الفائزة في الانتخابات، ومنها التيار الصدري وحتى بعض فصائل الحشد الشعبي، التي حققت تقدما، لا ترغب في دعم هذه التظاهرات وكانت تأمل في تشكيل حكومة تلبي استحقاقاتها، لكن القوى المؤيدة لإيران لا يبدو أنها موافقة على حكومة يشكلها تحالف "سائرون" بزعامة مقتدى الصدر، ويبقى رئيس الوزراء حيدر العبادي الوحيد الذي يعمل بجدية لأنه يترأس السلطة التنفيذية، وبرغم أنه يمثل "رمانة الميزان"، في التحالفات المقبلة، بسبب تفوقه الواضح في الانتخابات إلا أنه ترك كل ذلك وانشغل بتشكيل لجان وخلايا أزمة وتواصل مع دول عدة، لبحث سبل المساعدة في تطوير قطاع الكهرباء والماء، وهما الملفان الأكثر إلحاحا في هذه الأثناء، وقد حقق مكاسب إيجابية سريعة وهناك جهود تبذل لتلبية المطالب لتخفيف الاحتقان الشعبي، والشروع في المزيد من المشاريع الخاصة بتحلية المياه وإنتاج الطاقة الكهربائية. وعلى ما يبدو أن مآلات هذه التظاهرات غير واضحة، في ظل تصاعد الخلافات ووجود نوايا مبيتة لدى بعض الكتل السياسية، لعرقلة جهود الحكومة، في سبيل الإصلاح، وتبقى الحاجة ملحة الى شراكة حقيقية بين الفرقاء السياسيين لتلبية المطالب الشعبية، قبل التفكير بالحكم والمكاسب السياسية، نظرًا لأن كل ذلك سيضيع مالم تتوفر للشعب أسباب الكرامة وبعض الرفاهية. وليس خافيًا على أحد أن غياب العراق عن دوره الإقليمي والدولي، منذ سقوط نظام صدام حسي، أحدث خللا في التوازن الإقليمي، لم يكن في صالح العراق، ولا دول المنطقة، خصوصًا بعدما أرسى بول بريمر الحاكم الأمريكي في العراق، نظامًا سياسيًا، مبني على المحاصصة الطائفية، وفق دستور ملئ بثغرات أزكت حربًا طائفية راح ضحيتها آلاف الأبرياء العراقيين. . . .