هي سورة حادة في كلماتها، عنيفة في مشاهدها، شديدة الإيقاع ، قوية الملامح، آياتها كأنها سياط نارية لاذعة، ترتجف فيها النفس وهي ترى وقفة المحاكمة الرهيبة لكل إنسان يوم القيامة، حينما تواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات على كل ماعملت من خير أو شر. وعقب كل مشهد تلفح النفس المذنبة لفحة كأنها من نار حين يتوعدها الله بقوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ)، وقد تكررت هذه الآية في سورة المرسلات عشر مرات، لتأكيد أن هذا الويل سوف يناله كل واحد على قدر تكذيبه بما أنزل الله... بداية عاصفة ثائرة تعرض آيات المرسلات مشاهد من الدنيا والآخرة وما فيهما من الجزاء من ثواب وعقاب، وتتحدث عن حقائق في الكون والنفس، وتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة، متعددة القوافي، وتستقبل النفس هذه المقاطع والفواصل والقوافي بشدتها وعنفها الخاص، وما تكاد تفيق من إيقاع حتى يعاجلها إيقاع آخر، بنفس العنف وبنفس الشدة. فمنذ بداية السورة والجو عاصف ثائر بمشهد الرياح والملائكة: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ).. وقد شددت سورة المرسلات النكير على منكري البعث، وهددتهم بالويل والثبور، وعظائم الأمور، مقابل كبرهم وعنادهم ، فالساعة آتية لا محالة، والبعث واقع لا فرار منه، ولا فكاك عنه. وتتعدد مقاطع السورة، وتمثل كل منها جولة أو رحلة في عالم مختلف؛ سواء في الدنيا أو في الآخرة سنتجول في كل منها. مشاهد يوم الفصل الجولة الأولى تقع في مشاهد ومظاهر يوم الفصل "يوم القيامة"، حيث تصور بقوة الانقلابات الكونية الهائلة في السماء والأرض ومافيهما وماعليهما، وهي الموعد الذي تنتهي إليه الرسل بحسابها مع البشر: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لأَيِّ يَوْمٍ أُجلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ). سنة الله في المكذبين أما الجولة الثانية فتبين بحزم مصيرالغابرين من الأمم السابقة وكيف أنه لا يختلف عن مصير من جاء بعدهم واتبع نفس منهجهم وتفكيرهم، فهي توضح سنن الله في المكذبين على مر الزمان: (أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ). النشأة الأولى وتأتي الجولة الثالثة موضحة مراحل النشأة الأولى للإنسان، وتطوره في الخليقة، مدللة على عظمة وقدرة الخالق: ( أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ). الأرض وما عليها ثم في الجولة الرابعة نرى الأرض التي تضم أبناءها إليها أحياء وأمواتًا، وكيف أعدت لهم سبل المعيشة عليها وجهزت لهم مظاهر الاستقرار عليها: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتًا * وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ). مصير المكذبين وبعدها نشاهد الجولة الخامسة وهي تستعرض مصير المكذبين بكل ما سبق من آيات ودلائل على وحدانية الله عز وجل، فنرى وبعنف ما يلقونه يوم الفصل من عذاب شديد: (انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ). يوم قاس وتستكمل كل من الجولة السادسة والسابعة مظاهر هذا اليوم القاسي على المكذبين في مزيد من التأنيب لهم على استكبارهم وعنادهم الذي أوقفهم هذا الموقف اليوم حيث لاعودة ولاحيلة لهم: (هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ * فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ). سعادة ونعيم فوق الخيال ثم نستمتع بمشاهد ناعمة رقيقة في الجولة الثامنة مع المتقين وما أعده الله لهم من السعادة والنعيم: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ). متع وقتية زائلة ثم نعود في الجولة التاسعة إلى مشهد مخيف مع المكذبين في تأنيب خاطف لهم وتوعد بزوال متعهم الوقتية سريعًا ليخلدوا بعدها في العذاب: (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ). ختام الجولات وفي نهاية التأنيب للمكذبين تأتي الجولة العاشرة بلوم سريع لهم على عدم إيمانهم واستجابتهم لرسلهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ). ثم نرى الخاتمة بعد هذه الجولات والاستعراضات؛ حيث تبين مصير هؤلاء المكذبين الذي لارجعة فيه، والذي وصلوا إليه بعنادهم واستكبارهم وتكذيبهم لرسلهم: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ). "المرسلات" أم "العُرف"؟ سُميت السورة في عهد الصحابة بسورةَ "والمُرْسَلات عُرْفًا"، ففي حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين قال: «بينما نحن مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في غارٍ بمنًى إذ نزلت عليه سورة والمرسلات عُرفًا، فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لَرَطْبٌ بها إذْ خَرجت علينا حية». وفي الصحيح عن ابن عباس قال: قرأت سورة "والمرسلات عرفًا" فسمعتني أم الفضل (امرأةُ العباس) فبكَت وقالت: بُنَيَّ أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخرُ ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقرأ بها في صلاة المغرب. ثم سميت (سورة المرسلات) بدون واو القَسَم؛ لأن الواو هنا واو العطف، روى أبوداود عن ابن مسعود: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يقرأ النظائر السورتين في ركعة، الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقةُ في ركعة"، ثم قال: "وعَم يتساءلون والمرسلات في ركعة " وسماها المرسلات.. واشتهرت في المصاحف باسم (المرسلات)، وكذلك في التفاسير وفي صحيح البخاري، وذكر الخفاجي وسعدُ الله الشهير بسعدي أنها تسمى (سورة العُرْف) ولم يسْنداه، وفي (الإِتقان) عن (كتاب ابن الضريس) عن ابن عباس في عدّ السور التي نزلت بمكة ذكرها باسم المرسلات، ولم يذكرها في عداد السور ذات أكثرَ من اسم . وفي (دلائل النبوة) للبيهقي عن عكرمة والحسن في عدّ السور التي نزلت بمكة ذكرها باسم المرسلات. الرياح أم الملائكة ؟ يقول الدكتور زغلول النجار: تبدأ سورة المرسلات بقسم من الله بخمسة أشياء عظيمة من خلقه لتأكيد ما فيها من شهادة له بطلاقة القدرة وعظيم الصنعة وإبداع الخلق، وبالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه بغير شريك ولا شبيه ولا منازع، ولا صاحبة ولا ولد، وفي ذلك تقول الآيات: "وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا . فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا . وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا . فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا . فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا . عُذْرًا أَوْ نُذْرًا " (المرسلات:1-6) . واختلف المفسرون في تعيين هذه الأمور الخمسة المقسم بها هل هي من الظواهر الكونية، أم من الملائكة القائمة على تنفيذ أوامر الله في الكون، أم تشمل الأمرين معًا؟ والظاهر أنها تشمل الأمرين معًا وذلك لربط الآيتين الأولي والثانية بحرف العطف (ف)، وفصلهما عن الآيتين الثالثة والرابعة بحرف العطف (و) وهما مربوطتان أيضًا بحرف العطف (ف)، وبذلك اعتبر القسم بالمرسلات قسمًا بالرياح التي يرسلها ربنا تبارك وتعالى بتصريفه، من الإرسال وهو التسليط والتوجيه. و(عرفًا) أي متتابعة متلاحقة، و (العرف) هو أيضًا المعروف ، وعلى ذلك فإن القسم ب (المرسلات عرفًا) هو قسم بالرياح المتتابعة التي يرسلها الله بالخير. (فالعاصفات عصفًا) والعطف بالفاء هنا يشير إلى أنه من عطف الصفات، والعاصفات هي الرياح فائقة الشدة التي تصل في شدتها إلى مستوى العاصفة أو الإعصار ، وبذلك يكون القسم بالرياح اللطيفة المتتابعة (أي النسيم)، كما يكون بالعواصف المدمرة والأعاصير وكلها من تصريف الله. أما القسم الثاني فقد جاء بالملائكة، وهم من أعظم خلق الله قوة، وأكثرهم التزامًا بطاعته وعبادته وحمده وتسبيحه وتمجيده، وجاء وصف الملائكة بتعبير (الناشرات) لنشرهن أجنحتهن في الفضاء الكوني، أو لنشرهن الهداية الربانية بالوحي إلى أنبياء الله ورسله، بما يحيي النفوس التي أماتتها العقائد الفاسدة من الكفر والشرك. وكذلك الإضافة بوصف (الفارقات فرقًا) فإنها تعود أيضًا على الملائكة الذين جعلهم الله تعالى بما يرسلهم به من أنوار الوحي السماوي وسيلة للتفريق بين الحق والباطل، في القضايا التي يعلم ربنا بعلمه المحيط عجز الإنسان عن وضع ضوابط صحيحة لنفسه فيها من مثل قضايا العقيدة، والعبادة والأخلاق، والمعاملات، وهي تشكل ركائز الدين. ويؤكد هذا المعني الوصف الذي جاء في الآية الخامسة والتي تقول: (فالملقيات ذكرًا) أي: اللاتي تلقين الذكر إلى أنبياء الله ورسله ليبلغوه إلى الناس، ( عذرًا أو نذرًا ) أي: إعذارًا إلى الله وإنذارًا منه، أو إعذارًا إلى الخلق بمعني إزالة لأعذار الخلق عند الله، وتخويفًا من عقابه عند عصيان أوامره، ثم يأتي جواب القسم بقوله تبارك وتعالى- (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ). في الجنة ونعيمها وعن جزاء المتقين المحسنين في يوم الفصل، قال الله عز وجل: "إِنَّ المُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ. وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ . كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ . إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ". فنراهم هناك في ظلال الأشجار والقصور الساحرة الرائعة الجمال، يشربون من عيون صافية من ماء ولبن وعسل وخمر، ويأكلون أشكالاً وأصنافًا من الفواكه اللذيذة، وهي جمع فاكهة وهي ما يتفكه به ويتنعم، وهذه الفاكهة هي بعض من نعم الله تعالى عليهم، وهي مضمومة إلى ملاذ أخرى مما اشتهوه ويخاطبهم الله بالمزيد من التكريم لهم فيعرض أطايب الطعام والشراب عليهم مع الدعاء لهم بالهناء بتناوله جزاء لأعمالهم الصالحة في الدنيا "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ". ويؤكد لهم الله جل شأنه بأن هذه هي سنته في جزاء المحسنين من خلقه فيقول: "إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ "، وهي جملة تقال لكل متق من العباد يصل إلى نعيم الجنة. "فيا الله ... يا ذا الجلال والاكرام ... نسألك بكل أسمائك الحسنى أن نكون من أهل جنتك ... آمين". المصادر: مقالات الدكتور زغلول النجار .. في ظلال القرآن. سورة المرسلات قراءة الشيخ معاذ زغبي إخراج غادة بهنسي (تسجيل أستوديو الأهرام)