العامة تعيش وتموت، لكن الصفوة يختصهم القدر بالخلود، فيصبح الفرد إنسانًا ويعيش مناضلاً، ويموت بطلاً أو شهيداً.. وعندما قررنا أن نعرض "ملف الشهيد" لم يكن ممكنًا أن نتجاهل البطل والرمز، الذى يوافق يوم 9 مارس، ذكرى استشهاده من عام 1969، على بعد 250 مترًا من العدو المتربص بالقائد الملهم، وهو وسط جنوده، حيث نتعرض لفقرات من سيرته العطرة، وأهم أقواله وأعماله، حتى لحظة استشهاده على الجبهة بين جنوده وهو رئيس للأركان. "يوم الشهيد".. ليس حديثا للذكريات، أو تاريخًا مشرفًا لضباط ورجال القوات المسلحة، الذين نعطى نماذج لما قدموه للوطن، كما لا نهف لسيرة قائد عظيم يندر تكراره، لكنه حديث الحاضر المختلط برسالة عطاء من الفرد المقاتل المؤمن بالله وبنصرة "خير جند الأرض "، ومثالان لقائد متفانٍ وضابط صغير يرسمان معاً منهاج عمل لمرحلة، هى ذاتها التى عاشها الفريق الراحل عبدالمنعم رياض ورفاقه من الأبطال من إعداد للبلاد فى مرحلة انتقالية قبل وبعد النكسة، لعلنا نتعلم منه خريطة طريق، وربما نستشرف منهم الحل فى معركة المستقبل. الفريق عبد المنعم رياض، ولد إنساناً، وعاش بطلاً، ومات شهيداً، ومن أشهر الأسماء التى لمعت فى سماء العسكرية المصرية، بل تحوّل إلى رمز وحافز مهم لثورة 25 يناير، حيث كان يلتف الشباب حول تمثاله فى مدخل ميدان التحرير، يستلهمون منه الحماس وينطلقون يهتفون "عيش– حرية– عدالة اجتماعية". وبرغم أنه شخصية معروفة، وكتب عنه الكثير، وأطلق اسمه على العديد من الشوارع والميادين المهمة فى مصر والوطن العربى، وأهم من ذلك أن احتفالنا بيوم الشهيد اختير فى ذكرى يوم استشهاده "9 مارس"، تكريماً له وفخراً به وبأعماله، إلا أن كثيرًا من جيل الشباب لا تعرفه إلا اسماً -فقط- ولكن لا تعرف عنه أكثر من ذلك، لذلك فى يوم الشهيد نلتقى الكاتبة أميرة فكرى "التى قدمت للمكتبة المصرية كتابين يقدمان مراحل حياته كإنسان وضابط وقائد وشهيد، هما الفريق عبد المنعم رياض رمز العسكرية المصرية، ورياض القدوة والرمز". أميرة فكرى.. كاتبة عسكرية مرموقة قامت بتأليف أكثر من 17 كتابًا فى مجال القصة والسير العسكرية، وتقول فى نبذة عامة عن الشهيد البطل: الفريق أول عبدالمنعم رياض من أشهر القادة العسكريين العرب خلال النصف الثانى من القرن العشرين، ويعتبر رمزاً شامخاً لجيل من القادة العسكريين المصريين تم صناعتهم وسط أتون المعركة بيننا وبين الكيان الصهيوني، فهو من الذين آمنوا بأن القادة يصنعون، وهو القائل عن إيمان: بأننا إذا حاربنا حرب جنرالات المكاتب في القاهرة، فالهزيمة محققة، مكان الجنرالات الصحيح وسط جنودهم، وأقرب إلي المقدمة منه إلي المؤخرة"، لذلك كان استشهاده خاتماً لمسيرة معتقداته، حيث استشهد في أقرب نقطة في خط المواجهة بيننا وبين العدو (الإسرائيلي) في الإسماعيلية، ولم يكن عبدالمنعم قائداً عسكرياً شجاعاً فقط، إنما كان مؤمناً بدور العلم في الصراع والمواجهة. عبدالمنعم رياض، بالإضافة إلي علمه العسكري وخبراته العسكرية وسط المعارك، كان أيضاً مثقفاً رفيعاً يقرأ في الفكر الاستراتيجي ويشاهد المسرح ويستمتع بالباليه، لذلك ليس غريباً أن تخرج منه استشرفات مهمة لا تتأتي إلا من خبير ذات وزن. هو القائل بعد هزيمة 1967: "لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة، عندما أقول شرف البلد، فلا أعني التجريد هنا، وإنما أعني شرف كل فرد، شرف كل رجل وكل امرأة". وهو القائل: "القادة العسكريون يصنعون.. يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة". وهو القائل أيضًا قبل انتصار أكتوبر: "سوف نعبر بأولادنا.. أولاد بناة مصر الحقيقيين من عمال وفلاحين وسوف يتم تحرير سيناء". توفى الفريق أول عبد المنعم رياض فى الخمسين من عمره، وإذا بحثنا فى حياته، لوجدناه إنسان عاش بسيطاً فى حياته.. عظيماً فى مماته، علماً فى خلوده، وكأن المولى "عز وجل" أراد أن يتوج حياة هذا البطل باستشهاد رائع حتى يظل منارة للأجيال المقبلة من بعده. لقد ضرب الفريق عبد المنعم رياض المثل الأعلى فى الترفع عن الصغائر، والبعد عن المظاهر، والشجاعة والتفانى والإخلاص، وغيره من الصور الجميلة، حيث كان شديد الاعتزاز بنفسه لا يقبل الإهانة من أحد مهما علا مركزه، وفى الوقت ذاته جم التواضع، سريع الألفة مع الناس مهما قلت مراتبهم، متفانياً فى عمله وواجبه، يحترم قاداته ويحنو على أبنائه فى العمل ولم يجد غضاضة فى أن يشاركهم حياتهم على الجبهة. يرى الجميع تواضعه وبساطته، فى حياته الخاصة، ونلمح رغباته الشخصية المتواضعه، فقد كانت من أهم أمنياته الحصول على قطعة أرض صغيرة يزرعها بنفسه بعد إحالته للتقاعد. إن الشهيد عبد المنعم كان يسعى للتعرف على الثقافات المختلفة من أجل معرفة الكثير، وساعده على ذلك، إجادته للعديد من اللغات كالفرنسية والروسية والإنجليزية، ليس ذلك فقط، بل كان شغوفاً بدراسة العلوم والرياضة مما جعله ينتسب إلى كلية العلوم وهو أميرالاى حتى يستطيع دراسة الصواريخ المضادة للطائرات. ولم يكتف بذلك، بل سعى لمعرفة المزيد، ونراه ينتسب وهو برتبة الفريق إلى كلية التجارة، وهو فريق بالقوات المسلحة، لإيمانه بأن الاستراتيجية هى الاقتصاد. أما فى شأن حياته العسكرية، فقد تدرج فى مختلف المناصب بالقوات المسلحة، وحصل على العديد من الدراسات العسكرية والدورات والتدريبات الخاصة، وكعادة العظماء كان التفوق حليفاً له. شارك فى العديد من الحروب بداية من الحرب العالمية الثانية ضد الألمان والإيطاليين مابين عامىِ 41و 42 ثم مشاركته فى حرب فلسطين عام 1948، ثم فى حرب 1956 والعدوان الثلاثى على مصر، وحرب يونيو 1967، وينهى حياته بالاشتراك فى حرب الاستنزاف واسترداد الكرامة. يذكر أن الفريق عبدالمنعم رياض، كان قائداً لمركز القيادة المتقدمة فى عمان أثناء حرب 67، وله مساهمات بارزة فى إعادة البناء العسكرى للقوات المسلحة بعد النكسة، حيث كان أحد الأعمدة الرئيسية التى اعتمد عليها الرئيس جمال عبد الناصر فى إعادة بناء وتنظيم القوات المسلحة، وفى عمليات الاستنزاف. فى عهده تحققت انتصارات عسكرية كبيرة فى المعارك التى خاضتها القوات المسلحة خلال حرب الاستنزاف، مثل "معركة رأس العش " التى منعت فيها قوة صغيرة من المشاة المصرية سيطرة القوات الإسرائيلية على مدينة بورفؤاد الواقعة على قناة السويس، وأخيرًا لا نغفل دوره فى تدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات، وإسقاط العديد من الطائرات الحربية الإسرائيلية خلال عامي 67 و1968. عن أهم كلماته تقول الباحثة العسكرية :"للفريق عبد المنعم رياض كلمات شهيرة تلخص قناعاته وخبراته فى الحياة منها: - لا تجعل جنودك حتى فى أحلك الظروف واللحظات يرون عليك علامات القلق والارتباك. - لا تسرع فى قراراتك وحينما تقرر لا تتراجع أو تتردد. - لا تكن تقليديا أو نمطيا واسعَ للإبداع والابتكار. - لاتتكبر ولا ترفع الكلفة. - دون خواطرك وتأملاتك فى لحظتها. - لا تنس أبدا أن معظم النار من مستصغر الشر. - أخطاء الصغار صغيرة ويمكن معالجتها، مادامت –بغير قصد- وحتى فى حدود ممارستهم لحق التجربة والخطأ.. أما أخطاء الكبار فإنها دائما كبيرة، وقال ذلك عندما كان ينتقد بعض القادة خاصة بعد هزيمة يونيو67. - لا تقبل بالحلول الوسط إلا عند الضرورة القصوى. - حافظ على أن تشيع جوا من التفاؤل واليقظة فيمن حولك دائما. - ومن أقواله أيضا: "إن تبين أوجه النقص لديك.. تلك هى الأمانة.. أن تجاهد أقصى ما يكون الجهد بما هو متوافر لديك.. تلك هى المهارة". أول اقتراح نادى به فور توليه رئاسة أركان حرب القوات المسلحة، هو أن تكون فترة شغل منصب رئيس الأركان محددة ب(4 سنوات على الأكثر) وبرر "شرط المدة" هذا بعدة أسباب منطقية أهمها: حتى لا يتعرض شاغل هذا المنصب العسكرى الحساس للصدأ أو الانقطاع عن التطوربمضى المدة، وحتى لا يصبح المنصب حكراً وفرصة أمام أحد فى المستقبل لينسجل نفسه مركز قوة، وأخيراً، حتى يفتح باب المنصب أمام نهر القيادات العسكرية الشابة فى القوات المسلحة، ويعطى الفرصة للجميع، والذى حدث أن الرئيس جمال عبد الناصر اقتنع بهذه الفكرة ولم تمض أسابيع إلا وصدر بالفكرة قرار جمهوري يحدد فترة شغل منصب رئيس أركان القوات المسلحة ب4 سنوات، وتمتد بقرار جمهورى إلى سنة أو خمسة أو أكثر وبناء على الكفاءة. كما اقترح توسع القوات المسلحة فى تجنيد حملة المؤهلات العليا وإلغاء القرعة فى التجنيد، وكان رأيه أن القرعة تصلح لأوراق اليانصيب، لكنها لا تصلح وسيلة عملية للتجنيد، فالجندى المتعلم يستخدم سلاحه استخداماً فنياً صحيحاً ويصونه ويتحد معه، وأيضاً لا يستغرق تدريبه أكثر من ربع المدة اللازمة لتجنيد الآخرين، وهذا يخدم استراتيجيتنا فى تكوين جيش قوى وعالمى الكفاءة فى أقل وقت ممكن، ثم عرض الاقتراح على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذى اقتنع به وأصبح الاقتراح قراراً جمهورياً بتجنيد حملة المؤهلات.