صدر حديثًا عن إدارة النشر بالهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية كتاب تحت عنوان "إحياء علوم الإسكندرية.. من اليونانية إلى العربية"، من تأليف الكاتبة والأكاديمية الدكتورة رضوى زكي، وبتقديم الدكتور كمال مغيث، الخبير التربوي ورئيس تحرير سلسلة «حكاية مصر». يأتي الإصدار الخامس والأربعون من تلك السلسلة ليلقي الضوء على سيرة التراث العلمي السكندريّ ومحطاته الرئيسية، ويعكس وجهًا من أوجه تلك المدينة في أوج مجدها وازدهارها، تلك البقعة التي لم تكن عاصمة مصر وحسب؛ بل وعاصمة العلم والثقافة في العالم القديم، وهي المدينة التي سُك اسمها على العملات الرومانية بأنها "الإسكندرية المتاخمة لمصر". "بوابة الأهرام" التقت مع الدكتورة رضوى زكي في حوار خاص عن الكتاب وظروف كتابته ومشروع الباحثة في الكتابة الأكاديمية على خلفية اقتراب معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته التاسعة والأربعون وصدور الكتاب في جميع منافذ الهيئة العامة لقصور الثقافة. لماذا جاء إختيار دراستك لموضوع إحياء علوم الإسكندرية من اليونانية إلى العربية؟ أعتز بهذا الكتاب كثيرًا باعتباره أول الإصدارات التي استهل بها علاقتي بالقارئ من جانب، وابدأ بها عام 2018 بوجه عام، كما اعتز كذلك بصدوره عن مؤسسة تحرص على القارئ العام، وتصدر مؤلفات في متناول الجميع؛ فكتابي على سبيل المثال يباع بخمسة جنيهات مصرية على الرغم أنه يقع في 365 صفحة من القطع الصغير، وهو ما قد يضمن له انتشارًا وتداولاً بين عموم القراء. اخترت هذا العنوان للكتاب لرغبتي في إحياء السيرة العلمية لمدينة الإسكندرية القديمة، وكان الجزء الثاني من العنوان توضيحًا للقارئ وإشارة له أن تلك العلوم المدونة باليونانية ظلت حيّة في تاريخ العلم بفضل ترجمة جانب كبير منها إلى العربية في القرون الثلاثة الأولي من عمر الحضارة الإسلامية. وعلى الرغم أن هناك العديد من الدراسات التي تناولت هذا الموضوع؛ فقد تناولته من منظور يجذب القارئ المصري، وكان أحد أهدافي أن يدرك إن الحركة العلمية في لم تزدهر بكونها مدينة يونانية حكمها البطالمة ومن بعدهم الرومان وحسب؛ بل لأنها أقيمت في بلاد النيل، فكانت علومها مختلطة بروافد مصرية، ثم قدمت الإسكندرية دورًا هامًا آخر بعد أن كانت تلك المآثر العلمية النواة الرئيسية للعلوم العربية الناشئة، فكانت الإسكندرية حلقة وصل في التاريخ لها دور محوري في تقدم البشرية وهذا ما حاولت تقديمه في كتابي بصورة تناسب عامة القراء. وكلما تحدثنا عن مؤسسات الإسكندرية القديمة لابد وأن يثار تساؤل عفى عليه الزمان؛ من أحرق مكتبة الإسكندرية؟. وعلى الرغم أن جمهور الباحثين وعلى رأسهم د. مصطفى العبادي رحمه الله تباروا في توضيح تلك النقطة والرد عليها وفقًا للمعايير البحثية والأكاديمية، وليس بإملاء العواطف والدفاع عن المسلمين؛ يبقى أن هذا الجانب تناولته في كتابي بالاعتماد على دراسة إسبانية حديثة، ومفادها بعد تمحيص المصادر التاريخية العربية أن هناك نوع من أنواع التصحيف أو التزوير في الرواية الأساسية التي تدعي أن العرب هم المسؤولون عن حريق مكتبة الإسكندرية الواردة في كتاب "إخبار العلماء بأخبار الحكماء" لمؤلفه العربي ابن القفطي (ت. 646ه)، وعلى حسب الدراسة، فالكتاب المنقول عن مختصر للمخطوطة قد زوره أحد اليهود المعاصرين وهو "أبو الفرج العبري" وهو الشخص الذي قام بنشر مختصر لكتاب ابن القفطي، وهي النسخة الوحيدة لهذا المصنف الذي وردت به الرواية، مما ينفي للمرة الأخيرة هذه التهمة اللصيقة بالمسلمين. هذا عن أبرز دوافع الكتاب، وماذا عن محتواه؟ تناولت في الكتاب عبر خمسة فصول رحلة العلم اليوناني، منذ انطلاقه في أرض الإسكندرية إبان العصر البطلمي، منذ نشأته بين أروقة مؤسساتها الثقافية في الحقبة الهلينستية، حتى وصوله إلى مستقره في بغداد؛ عاصمة الخلافة العباسية وانتقاله للسان العربي. يلقى الفصل الأول من الضوء منظور تاريخي على موضع الحركة العلمية في مدينة الإسكندرية؛ مدرسة الإسكندرية القديمة ومكتبتها. ويتناول الفصل الثاني مآثر مدرسة الإسكندرية العلمية في مجال العلوم الطبيعية والتطبيقية، والذي يقودنا إلى الفصل الثالث لنتابع مآثر مدرسة الإسكندرية العلمية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية. ويبحث الفصل الرابع هُوّية علوم مدرسة الإسكندرية، بينما يعالج الفصل الخامس انتقال الحركة العلمية عبر الترجمة من الإسكندرية إلى بغداد، والتي أصبحت وريثة علوم الإسكندرية بلا منازع. وأهم ما أحببت الوقوف عليه أن علوم مدرسة للإسكندرية بقيت نورًا أضاء لعلماء العصور الوسطى درب المعرفة، فالعرب لم يأخذوا علومهم مباشرة عن الحضارة العراقية أو المصرية أو الفارسية القديمة؛ حيث وفدت إليهم عن طريق وسيط وهو الحضارة الهلينستية التي انصهرت في بوتقتها العلوم القديمة بالقلم اليوناني، واتخذت من الإسكندرية مستقرًا لها، وذلك خلال القرون الأولى من عمر الحضارة الإسلامية الناشئة، فأحدثت نهضة استثنائية عُرفت باسم «العصر الذهبي للترجمة»، بعدما رفد إلى العقل العربي العلوم والمعارف اليونانية. فاستحق علماء العرب المسلمون أن يكونوا ورثة التراث العلمي اليوناني، وحلقة الوصل بين علوم العصور القديمة والحديثة، فباتت الترجمة والنقل إيذانًا بإعمال العقل العربي وانطلاقه على طريق الإبداع وخدمة الإنسانية. ولا يفهم من ذلك أن حركة الترجمة لم يكن عليها مآخذ أو مثالب؛ الحقيقية أنها كذلك أثرت على العقلية العربية العلمية لفترة طويلة، على مستوى منهج دراسة وترجمة العلوم اليونانية، وكذلك على صعيد مشاكل في ترجمة النصوص اليونانية الأصلية، واختيار نصوص بعينها والانصراف عما سواها. بما أن هذا هو إصدارك الأول ككاتبة.. ما هو مشروعك في الكتابة بوجه عام؟ هو الإصدار الأول لي بالفعل نظرًا لصعوبة آليات النشر في مصر وبخاصة للشباب، لكن أظن أن بعض القراء ربما تعرفوا على اسمي من المقالات التي أكتبها في موضوعات مختلفة. فأكتب بصفة غير دورية في العديد من المطبوعات المصرية والعربية والمواقع الإلكترونية ومنها بوابة الأهرام للحضارات ومجلة الهلال والثقافة الجديدة وعالم الكتاب بداخل مصر، ومجلة العربي الكويتية والرافد ومراود الصادرتان عن مدينة الشارقة، بجانب بعض التدوينات والنصوص ذات الطابع الشخصي والثقافي. وأظن أن تلك التجربة منحتني بعض الخبرة لقياس ردود أفعال واتجاهات القراء وتفاعلهم مع ما أنشره، وأحرص دائمًا أن يتعرف القارئ على مشروعي من خلال ما أكتبه، فالكتابة هي الباقية دومًا. بصفة عامة، تتجاذني علاقة الحضارات في مصر ببعضها البعض، على الصعيد الشعبي والرسمي.. بعبارة أخرى علاقة مصر في عصرها اليوناني بحضارتها العربية عن طريق الاتصال العلمي والفكري مثل ما قدمته في كتابي إحياء علوم الإسكندرية، وكذلك علاقة العمارة الإسلامية بما سبقها من تراث معماري وهو ما تناولته في رسالتي لدرجة الدكتوراه عن العناصر المعمارية المعاد استخدمها في العمارة الإسلامية بمدينة القاهرة. العمارة على سبيل المثال هي حوار حي لكنه مكنون في الأحجار... حين تمر على منشأة إسلامية وتجد عمود مجلوب من كنيسة أو معبد روماني أو عتبة مدخل عليها نقوش فرعونية حتمًا سيثير ذلك تساؤلات مختلفة في نفس الزائر... تساؤلات إجابتها تدور أن الحضارة العربية في مصر تختلف عن أي بقعة أخرى دخل فيها المسلمون لأن تراث مصر المعماري والثقافي متصل وليس منفصلا، ربما بأشكال غير مباشرة لكنها موجودة لمن يبحث ويدقق. أمر آخر أحب أن أتناوله في كتابتي هو الممارسات الشعبية المتصلة على مدار التاريخ المصري في العادات والتقاليد وعلى الرغم مما يبدو من انقطاع مظاهر الاتصال بين مصر في عصرها القديم وعصرها العربي؛ فقد ظهرت أشكال أخرى للتفاعل الشعبي والثقافي بين تراث مصر القديمة ومصر العربية، وتأثرت الثقافة الإسلامية بالكيان التاريخي المصري القديم، فظل الموروث الحضاري والاجتماعي حيًا فاعلاً بهيئات أخرى بين المصريين في العصور الإسلامية. وتميزت مصر العربية في مظاهر حضارتها عن الأقطار الأخرى التي دخلها المسلمون، حيث تفردت بطابع وشخصية مميزة، مستوحاة من ثقافتها وتراثها، زاخرة بتفاعل المسلمون مع ما وجد وه في مصر من منتوج أثري وحضاري، فت ش كل على أيديهم قالبًا "مصريًا" للحضارة العربية. الجدير بالذكر أن د.رضوى يسرى زكي، كاتبة وأكاديمية مصرية، حاصلة على درجة الماجستير والدكتوراه من جامعة الإسكندرية، كما تلقت تدريبًا في التراث الثقافي والحفائر الأثرية من المركز الوطني للبحوث وجامعة سابينسا بروما في إيطاليا، كما تشغل وظيفة باحثة أكاديمية بأحد المؤسسات الثقافية المصرية المرموقة، شاركت في تحرير ودراسة عدد من المطبوعات الأكاديمية قبل إصدار كتابها الأول، كما شاركت بعدد من المؤتمرات المحلية والدولية، ولها عدد من الأبحاث المحكَّمة المنشورة في مجال الحضارة والعمارة الإسلامية، وتهتم برصد العلاقة بين مصر القديمة ومصر العربية، وتأريخ العمارة الإسلامية.