بتاريخ يضرب جذوره لأكثر من 5 آلاف عام، أبت القدس إلا أن تثبت عروبتها منذ أن تناول "الكنعانيون" و"اليبوسيون" (أصحاب الأصل العربي) أول معول لبناء المدينة المقدسة في الألف الثالث قبل الميلاد، واليوم تقف المدينة الأزلية التى دُمرت مرتين، وحوصرت وهوجمت لأكثر من 120 مرة عبر تاريخها الممتد عبر الزمان، لتنتظر قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذى يعتزم الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل دولة الاحتلال الوحيدة فى القرن الحادى والعشرين ، إن كان باستطاعته أن يمحو عن المدينة تاريخها الطويل. لم تحظ مدينة في العالم بمثل ما حظيت به مدينة القدس، من حيث الموقع الإستراتيجي، والأهمية التاريخية، والمكانة الدينية عند أصحاب الديانات الثلاث. الأسماء الكثيرة والمتعددة للمدينة يعكس امتداد تاريخها الطويل، الذي يضرب في جذور الزمان لأكثر من 5 آلاف عام، لكن المدينة المقدسة أبت إلا أن تثبت عروبتها منذ أن تناول "الكنعانيون" و"اليبوسيون" أصحاب الأصل العربي أول معول لبناء المدينة في الألف الثالث قبل الميلاد، وأطلقوا عليها اسم "يبوس"، ثم أسموها "أور ساليم" وتعني مدينة السلام أو مدينة الإله ساليم، واشتقت من هذه التسمية كلمة "أورشليم" التي تنطق بالعبرية "يروشاليم" ومعناها البيت المقدس، وقد ورد ذكرها في التوراة 680 مرة، ثم عُرفت في العصر اليوناني باسم "إيلياء" ومعناه بيت الله. وبعد أن أصبحت "أورساليم" مهوى أفئدة القبائل الكنعانية العربية، أسس الكنعانيون واليبوسيون حضارة ذات طابع خاص، فأنشأوا الحصون، وشيدوا القلاع والأسوار، وحفروا قنوات الري. ويُجمع المؤرخون، على أن اليهود عندما دخلوا القدس، أقبلوا طارئين على السكان الأصليين من الكنعانيين (أصحاب الأرض)، فهذا ابن كثير يؤكد ذلك قائلا: "وأما الكنعانيون فلحق بعضهم بالشام، ثم جاء بنو إسرائيل، ثم ثبت الروم على بني إسرائيل فأجلوهم عن الشام (القدس ونابلس) إلى العراق"، أما ياقوت الحموي فيؤكد على عروبة الكنعانيين سكان القدس، بقوله: "إن كنعان بن سام بن نوح إليه ينسب الكنعانيون، وكانوا يتكلمون بلغة تضارع العربية… وكان كل ملك من بني كنعان يلقب جالوت إلى أن قتل داوود جالوت آخر ملوكهم، فتفرقت بنو كنعان". مع بزوغ العصر النحاسي تربع نبي الله داود على عرش المدينة المقدسة لنحو 40 عامًا، ومثلها لولده سليمان -عليهما السلام شهدت خلالها القدس ازدهارًا اقتصاديًا لم تشهده من قبل، بفضل استخدام النحاس، وقد ورد ذلك نصًا في القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى في سورة سبأ: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)". وتزعم الروايات التوراتية أن نبي الله سليمان قد أقام "الهيكل المقدس" ليوضع عليه "تابوت العهد" أو "تابوت السكينة"، الذي ورد ذكره في القرآن، حيث جعله الله آية من آيات ملك "طالوت" الذى جعله الله ملكًا على بنى إسرائيل، حيث قال تعالى في سورة البقرة "قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين". وبوفاة سليمان عليه السلام انفصمت عرى المملكة المقدسة لبنى إسرائيل، حيث رفضت 10 أسباط من اليهود مبايعة رحبعام بن سليمان، فانقسمت انقسمت المملكة إلى قسمين شمالي وجنوبي، وسُمي القسم الجنوبي بمملكة يهوذا في الجنوب، وأصبحت القدس عاصمة لها تحت قيادة رحبعام بن سليمان.، فيما سُميت المملكة الشمالية باسم مملكة إسرائيل، وقد اتخذت من السامرة عاصمة لها. دخلت مملكتا يهوذا وإسرائيل في حروب طاحنة بينهم سال لها دم الأنبياء، وقد تجرد ملوك الفرس للهجوم على هاتين المملكتين، فسقطت مملكة "إسرائيل" أولا حينما غزاهم سرجون ملك آشور عام 721ق.م، وأجلى اليهود إلى ما وراء نهر الفرات. مملكة "يهوذا" لم تكن بأسعد حالاً من "إسرائيل" إذ جرد لها ملك بابا نبوخذ نصر ثلاث حملات، بدأت أولاها عام 606 ق.م، أجبرها خلالها على الطاعة ودفع الجزية، ثم ثارت "يهوذا" من جديد فسار إليها عام 593 ق .م، فسبى من شعبها عشرة آلاف ونهب كنوز الهيكل، لكن الغزوة الثالثة، والمعروفة باسم "السبي البابلي" عام 586 ق.م، كانت الأعنف، والأبقى أثرا فى نفوس يهود، حيث هدم أسوار المدينة، وأحرق الهيكل، وسبى اليهود إلى بابل. سمح الملك الفارسي قورش عام 538 ق.م، لمن أراد من أسرى اليهود في بابل بالعودة إلى القدس، واستمر حكمه حتى عام 333 ق. م، حتى استولى الإسكندر الأكبر على فلسطين، وبعد وفاته استمر خلفاؤه المقدونيون والبطالمة في حكم المدينة، واستولى عليها في العام نفسه بطليموس، وضمها مع فلسطين إلى مملكته في مصر عام 323 ق.م، وما أقبل عام 198 ق.م، حتى أصبحت القدس تابعة للسلوقيين في سوريا، وتأثر السكان في تلك الفترة بالحضارة الإغريقية. اكتسبت مدينة القدس أهمية دينية كبرى مع قدوم المسيح عليه السلام فهي بالنسبة لهم موطنًا لآلام المسيح، حيث صُلب يسوع المسيح على إحدى تلالها سنة 30 للميلاد، وبعد أن عثرت القديسة هيلانة، والدة الإمبراطور قسطنطين الأول على الصليب الذي عُلّق عليه بداخل المدينة بعد حوالي 300 سنة، وفقًا لما جاء في العهد الجديد عند المسيحيين. ومع نزول الوحي على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم اكتسبت المدينة طابعها الإسلامية مبكرًا، باعتبارها أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومعراج النبي، حيث قال تعالى "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير". فُتحت القدس في العام الخامس عشر من الهجرة على يد القائد أبى عبيدة بن الجراح، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، واشترط البطريرك صفرونيوس أن يتسلم الفاروق المدينة بنفسه، ووقع "العهدة العمرية"، وهي وثيقة منحتهم الحرية الدينية للمسيحيين مقابل الجزية، وبموجبها تم تغيير اسم المدينة من "إيلياء" إلى "القدس". اتخذت المدينة منذ ذلك الحين طابعها الإسلامي، واهتم بها الأمويون (661 – 750م)، فبُنى مسجد قبة الصخرة في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، في الفترة من 682 – 691م، وأعيد بناء المسجد الأقصى عام 709م، في عهد ولده الوليد بن عبدالملك، وشهدت المدينة بعد ذلك عدم استقرار بسبب الصراعات العسكرية التي نشبت بين العباسيين والفاطميين والقرامطة، وخضعت القدس لحكم السلاجقة عام 1071م. سقطت القدس في أيدي الصليبيين عام 1099م / 492 ه بعد خمسة قرون من الحكم الإسلامي، نتيجة صراعات على السلطة بين السلاجقة والفاطميين، وبين السلاجقة أنفسهم. وقتل الصليبيون فور دخولهم القدس قرابة 70 ألفاً من المسلمين، وانتهكوا المقدسات الإسلامية، حتى إن المؤرخ الفرنسي ريموند أوف جيل، الذي شهد الحملة، وثق شهادته قائلاً: "لم أستطع أن أشق طريقى". استطاع صلاح الدين الأيوبي استرداد القدس من الصليبيين عام 1187م / 583ه، بعد معركة حطين، وعامل أهلها معاملة طيبة، وأزال الصليب عن قبة الصخرة، واهتم بعمارة المدينة وتحصينها، لكن الصليبيين نجحوا في السيطرة على المدينة بعد وفاة صلاح الدين في عهد الملك فريدريك ملك صقلية، وظلت بأيدي الصليبيين 11 عاماً إلى أن استردها نهائياً الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 1244م. تعرضت القدس للغزو المغولي عام 1244م، لكن المماليك هزموهم بقيادة سيف الدين قطز، والظاهر بيبرس، في معركة عين جالوت عام 1259م/ 658ه، وضمت فلسطين بما فيها القدس إلى المماليك الذين حكموا مصر والشام بعد الدولة الأيوبية حتى عام 1517م. دخلت جيوش العثمانيين فلسطين بقيادة السلطان سليم الأول بعد معركة مرج دابق (1615م) وأصبحت القدس مدينة تابعة للإمبراطورية العثمانية، وقد أعاد السلطان سليمان القانوني بناء أسوار المدينة وقبة الصخرة. وفي الفترة من عام 1831 – 1840م، أصبحت فلسطين جزءًا من الدولة المصرية التي أقامها محمد علي، ثم عادت إلى الحكم العثماني مرة أخرى، وأنشأت الدولة العثمانية عام 1880 "متصرفية" القدس، وظلت المدينة تحت الحكم العثماني حتى الحرب العالمية الأولى التي هزم فيها الأتراك العثمانيون، وأخرجوا من فلسطين. سقطت القدس بيد الجيش البريطاني في التاسع من ديسمبر عام 1917، بعد البيان الذي أذاعه الجنرال البريطاني اللنبي، ومنحت عصبة الأممبريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وأصبحت القدس عاصمة فلسطين تحت الانتداب البريطاني (1920 1948)، ومنذ ذلك الحين دخلت المدينة في عهد جديد، كان من أبرز سماته زيادة أعداد المهاجرين اليهود إليها، خاصة بعد وعد" بلفور" المشئوم عام 1917، والذي واكب هذا العام الذكرى المئوية لعهد قطعه من لا يملك لمن لا يستحق. أحيلت قضية القدس إلى الأممالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، فأصدرت الهيئة الدولية قرارها في 29 نوفمبر 1947 بتدويل القدس. في عام 1948 أعلنت بريطانيا إنهاء الانتداب في فلسطين وسحب قواتها، فاستغلت العصابات الصهيونية حالة الفراغ السياسي والعسكري وأعلنت قيام الدولة الإسرائيلية، ما أدى إلى نشوب "حرب فلسطين" التى انتهت بهزيمة العرب، ونكبتهم فى 15 مايو عام 1948. وفي 3 ديسمبر 1948، أعلن ديفيد بن جوريون، رئيس وزراء إسرائيل، أن القدسالغربية عاصمة للدولة الإسرائيلية الوليدة، في حين خضعت القدسالشرقية للسيادة الأردنية حتى هزيمة يونيو 1967، التي أسفرت عن ضم القدس بأكملها لسلطة الاحتلال الإسرائيلي.