د. مجدي العفيفي لست من أنصار البكاء على اللبن المسكوب.. وأبدًا لست من هؤلاء الذين يقفون ويبكون على الأطلال.. على طريقة (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) لكني أسأل، والسؤال نصف الجواب: لماذا نمارس جلد الذات إلى هذا الحد؟ ولماذا هذه السادية في علاقتنا ببعض؟ لماذا نتمنى لأنفسنا السقوط ونكره الصعود؟ بل ونحرص كل الحرص على أن نحمل (صخرة سيزيف) ونصعد بها إلى الاقتراب من قمة الجبل، ثم نهوي بها إلى القاع، أو هي التي تهوي بنا، وبالأصح.. يريد لنا من يحقد علينا أن نهوي إلى مكان سحيق.. وقد كان.. ويكون.. وسيكون...!. أقول قولي هذا وأنا أتأمل في موقف لا يثير في النفس إلا الألم العربي القومي.. صحيح.. أن أي منصب فيه سمة العالمية يعمل صاحبه ضمن قوانين ونظم وأطر.. وصحيح أيضًا.. أن المناصب زائلة، والكراسي مؤقتة، والأشخاص موسميون.. إلا أننا كنا نود أن يحصل إنسان عربي على منصب الأمين العام لمنظمة اليونسكو.. سواء كانت السفيرة مشيرة خطاب أم الدكتور حمد الكواري، فكلاهما عربي، وكلاهما مثقف ثقافة واسعة، وكلاهما له وجوده بشكل أو بآخر، وكلاهما قيمة عالية ورفيعة.. بلا شك. لكننا للأسف استكثرنا على أنفسنا أن ننال هذه المكانة.. في زمن لا وجود فيه إلا للأقوياء، والقوة في عالم اليوم صارت قوة الفكر والإيديولوجيا، فهي قوة لا تتقهقر مهما تقدمت التكنولوجيا. ولأن الحقيقة دائمًا تظهر لكن متأخرة في كثير من الأحيان.. فإن ما علمته من مصادر موثوق بها أننا نحن العرب أسقطنا أنفسنا بأنفسنا، وعن عمد وسبق إصرار. علمت أن صوت لبنان هو الذي حسم الفوز في الجولة الأخيرة لصالح المرشح الفرنسي.. لبنان الذي ظل يصوت للوجود العربي حتى الجولة الرابعة، وفجأة صوت في الجولة الأخيرة لصالح الفرنسية، والذي حدث - والعهدة على الشاهد من داخل القاعة - أن رئيس الوزراء اللبناني منع السفير من رئاسة الوفد، وحل محله شخص جديد؛ ليصوت لصالح فرنسا، وكان هذا الصوت هو الذي دفن الأمل العربي على يد عربي!! وقد صار. وتبدو خطورة فقدان هذا المنصب من أنه لم تشغله شخصية عربية منذ بداية تأسيس اليونسكو عام 1945، وكان أول من تولى هذا المنصب جوليان هكسلي المملكة المتحدة 1946 / ثم خايمي توريس بوديت (المكسيك) 1948/ جون و. تايلور (الولاياتالمتحدةالأمريكية)1952/ لوثر إيفانز (الولاياتالمتحدةالأمريكية) 1953/ فيتوريو فيرونيزي (إيطاليا) 1958/ رينيه ماهيو (فرنسا) 1962/ أحمد مختار امبو (السنغال) 1974/ فيديريكو مايور (إسبانيا) 1987/ كويشيرو ماتسورا (اليابان) 1999 / إيرينا بوكوفا (بلغاريا) 2009 . هل يمكن أن نتجاوز - ونحن نتجرع آثار ذلك الموقف الدرامي في اليونسكو - ونفيق من هذه السادية السياسية في إجهاض حلم ثقافي كبير من كومة الأحلام العربية التي كأنها لا تريد أن تتحقق، أو بالأحرى لا نريد لها أن تتجسد واقعًا حيًا؟ متى نعلي من شأن الثقافة على السياسة المؤقتة والموسمية؟ وندرك أن الثقافة هي الأقوى أثرًا، والأطول عمرًا، والأبقى وجودًا؟ ومن المفارقة أنه جاء في تقرير لمنظمة اليونسكو أن الناس في العالم صارت (تمل) من السياسة و(تميل) إلى الثقافة؛ لكونها ميزة العبقرية الإنسانية، وباعتبارها السر الكامن وراء كل ما نمارسه، فهي الأبقى في الأذهان حين يطوي النسيان كل شيء، فاتسع معنى الثقافة وتجاوز مفهومها إلى آفاق أكثر رحابة، حتى أصبح يقال أنك إذا أردت تثبيت معتقد، أو تأكيد دعوة، أو نشر فكرة، فلن تجد مثل الثقافة بأدبياتها ومادياتها وسيلة فاعلة وفعالة، وصار على كل شعب متحضر أن يفخر بمثقفيه ومبدعيه فخرًا لا يقل أبدًا عن فخره بعلمائه: علماء الهندسة والطبيعة والكيمياء والذرة والفلك وغيرهم؛ لأن المثقفين وعلى رأسهم الشعراء والأدباء والفنانون، هم صانعو الحضارة بمفهومها الروحي، أما العمال والمهندسون والفلاحون فهم صانعو الحضارة بمفهومها المادي، وأن عمالقة الشعر يليهم عمالقة الفنون، دخلوا إلى حياة شعوبهم وشعوب العالم أكثر من غيرهم. فهل من مدكر..لاسيما بين أهل السياسة؟ وأذكر بمقولة رائعة ومروعة أوردها جورج أورويل في «مزرعة الحيوانات»: «السياسيون في العالم مثل القرود في الغابة، إذا تعاركوا أفسدوا الزرع، وإذا تصالحوا أكلوا المحصول»!!