(1) نعم.. إن عصمة المجتمع من السقوط في يد الثقافة.. لكن عن أية ثقافة نتحدث ؟ وعن أي مثقف نومئ؟ وأي تثقيف نريد؟ كما أنه ليس من حق أحد، أي أحد ، أن يقف ويقول أنا الدين، وأنا الإسلام ، وأنا المسيحية، وأنا المتحدث باسم الله، وأنا أحمل توكيلات من السماء، الي آخر هذه الثرثرة، فإنه لا يحق لأحد، أي أحد، أن يقول أنا الثقافة، وأنا الجماعة التي تحتكر الفعل الثقافي، وتهمش الآخرين، وتقصي التخالف في الرأي والمخالفة في الرؤية، هذا مستحيل، بالعقل والمنطق والحجة والبرهان. (2) جاء في تقرير لمنظمة اليونسكو أن الناس في العالم صارت (تمل) من السياسة و(تميل) إلي الثقافة لكونها ميزة العبقرية الإنسانية، وباعتبارها السر الكامن وراء كل ما نمارسه، فهي الأبقي في الأذهان حين يطوي النسيان كل شيء، كما أشرت في الأسبوع الماضي، حتي أصبح يقال أنك إذا أردت تثبيت معتقد، أو تأكيد دعوة، أو نشر فكرة، فلن تجد مثل الثقافة بأدبياتها ومادياتها وسيلة فاعلة وفعالة، وصار علي كل شعب متحضر أن يفخر بمثقفيه وشعرائه وأدبائه وفنانيه، فخرا لا يقل أبدا عن فخره بعلمائه علماء الهندسة والطبيعة والكيمياء والذرة والفلك وغيرهم، لأن المثقفين وعلي رأسهم الشعراء والأدباء والفنانون، هم صانعو الحضارة بمفهومها الروحي، أما غيرهم فهم صانعو الحضارة بمفهومها المادي، وأن عمالقة الشعر يليهم عمالقة الفنون، دخلوا إلي حياة شعوبهم وشعوب العالم أكثر من غيرهم»كما يقول المفكر السوري د. محمد شحرور في مشروعه الفكري العميق«. (3) وارتكازا علي طبيعة »المثقف الفاعل الذي هو بمثابة الوعي النقدي للمجتمع والتجسيد الخلاق لضمير الأمة »طبقا لتوصيف د. جابر عصفور« أقول ألا إن للمثقفين همومهم التي تتجاوز الموسمي والمؤقت والعارض، لتمتد إلي ما وراء المنظور بالمنتج الثقافي الخلاق، وبالخطاب الفكري الذي يتساند والخطاب العام، ويشكل جزءا فاعلا من المنظومة المصرية الفاعلة والمتفاعلة، فالفعل الثقافي الخلاق بقدر ما هو في حاجة إلي الاحتواء وسيلة، بقدر ما يحتاج إلي الأجواء التي يصفق فيها بأجنحته، ليبشر وينذر، ويحدق ويحلق، وفي تجليات المشهد العام، تصبح الثقافة أخطر من أن تكون من كماليات الحياة » فالكائنات نفسها هي الوجود المثقف للكائنات« علي حد تعبير د.يوسف إدريس في دعوته التي لا تزال حية:»أهمية أن نتثقف يا ناس« إيمانا منا بأن العقل الإنساني يطل من الثقافة، وأن المثل الأعلي للثقافة هو أن تختفي الثقافة، بمعني أن تصبح مندمجة في شخصية الانسان حتي دون أن تعرض علي مسرح أو تقدم في كتاب، ولا تعود الثقافة واعية، بل صامتة تكون جزءا من كيان الإنسان»طبقا لمقولة د. فؤاد زكريا في خطابه إلي العقل العربي«. وكتوصيف قوي للدور البارز للثقافة في تشكيل المجتمع الكوني في القرن الحادي والعشرين الذي ينبغي أن يكون، تتجلي الحكمة الإنسانية المعروفة للمهاتما غاندي:» لا أريد لبيتي أن تحيط به الأسوار من كل جانب إلي أن تسد نوافذه وإنما أريد بيتا تهب عليه بحرية تامة، رياح ثقافات الدنيا بأسرها، لكن دون أن تقتلعني إحداها من الأرض «. (4) لقد ثبت يقينا غير مراوغ أن السياسة التي تمارس علينا الآن، في المشهد المصري الخلاق، أو يفترض ذلك، هي سياسة بعيدة كل البعد عن السياسة التي هي فن تحريك الجبال، في أقوي وأعظم معانيها، كما أردد دائما وأبدا، لكننا نري السياسة في اللحظة الراهنة هي سياسة المصاطب والمقاهي، إنها تضيع المجتمع وتحاول تفكيك بنيته العميقة،فإن من يمارسونها هم مجرد (هواة) ليست السياسة لعبتهم ولا هي صناعتهم، بل هي هامشية للوجاهة والفهلوة بخلق الله البسطاء، ولهم فيها وفينا مآرب أخري .فلا عمق ثقافيا للسياسة، ولا رؤية ولا رؤيا ولا استراتيجية، ولكن »ميكافيللية« والغاية تبرر الوسيلة فلنسدل عليهم الستار بعد أن انتزعت الأقنعة وستظل تنتزع من وجوه فقهاء السلطان، لعلهم »يختشوا«!. فما أبشع الظواهر الثلاث القاتلة والتي تدمر أي مجتمع: الفرعونية والهامانية والقارونية ومن ثم يصبح الأمل في الثقافة، بالمعني الراقي والشامل والعميق للثقافة ودورها التنويري والاستناري ، والتي دونها يصبح المجتمع آيلا للسقوط، وهو ما نراه الآن وسنراه غدا، فالثقافة هي الأطول عمرا والأبقي آثرا ، والأغزر فكرا، هي روح المجتمع وقلبه النابض بالحياة والناهض للحياة القلب الخلاق للمجتمع المحترم، والمثقفون من مفكرين وكتاب ومبدعين هم بمثابة الأوتاد التي تثبت منظومة القيم في المجتمع وتقيه من الهبوط. (5) ان معظم المساحات المظلمة والظالمة في تاريخنا القديم والمعاصر، والتاريخ الانساني بوجه عام، كانت كذلك، لأن المثقفين كانوا إما مبعدين أو مغيبين أو منبوذين او مطرودين منجنة أصحاب فن القيادة او فن تحريك الجبال.. السياسة !. كل الشواهد التاريخية، والمشاهد الانسانية، تؤكد ان التحولات الكبري في حياة الشعوب تمت بالفكر والثقافة، وكل الومضات الساطعة في التاريخ الإنساني اشتعلت من مصابيح الثقافة والمثقفين، والتي أثارت علامات استفهام وأنارت علامات التعجب ، تمت علي أيدي المثقفين او -في أضعف الظروف - علي ضوء مصابيحهم الفكرية التي أنارت كثيرا من الدروب المعتمة، فاستنارت بها العقول السائلة والمسؤولة! سواء في حياة حملة المشاعل او بعد رحيلهم. بل إن كثيرا من المصابيح الفكرية لاتزال مشتعلة ومتوهجة علي الرغم من غياب مشعليها وموقديها منذ ألوف السنين، واسألوا التاريخ الحقيقي . التاريخ المكتوب ..لا التاريخ المزيف ..المدون حسب الأمزجة..! ويقينا .. أنه ساعة ان تنطفيء مصابيح المفكرين او حتي تبهت انوارهم، تتخبط الحياة، وتنقبض ولا تنبسط.. ويصدر الحكم علي هذه الفترة او تلك بالتصلب.. والاعدام الحضاري.. كل فترة من الترات التي همشت دور المثقف في المجتمع، كانت هشة ومهزوزة، فالمثقف الحقيقي هو قرن استشعار لمجتمعه وعالمه، وحين يتكسر هذا القرن او يتقصف ، تتوه مؤشرات المجتمع وترتفع وتنخفض وتتحرك بعشوائية ذات اليمين وذات الشمال، حتي وإن نحل صوتهم، فلن يضيع في صخب آبار الصمت والتجاهل واللامبالاة، ولن تتمكن أجنحة الظلم والظلام والاظلام من أن تفرد علي هذه المساحة أو تلك من التاريخ، وتتحرك الخفافيش وراء الأقنعة.. وتهتريء الوجوه، و.. تصبح الأقنعة وجوها حقيقية ! (6) هنا يتجلي الفعل الثقافي الخلاق، ومن هنا تتعاظم رسالة الصحافة الثقافية التي تحتاج مهارات فائقة، وتحتاج التداخل الواعي بين ملكة الصحافة وملكة الثقافة لتحقق المعادلة غير المخادعة، كصياغة لفكر ووجدان مجتمع، وكصناعة للأجواء ذات النسق الصافي للخلق والإبداع والإبتكار. كانت الصحافة، كما تؤكد ذاكرة الأمة، هي المدخل الواسع للأدب الحديث ، بل إن معظم المدارس الأدبية خرجت من عباءة الصحافة، وكانت تكوينات رموز الثقافة أجمعين نتيجة حوار صحفي عبر صحيفة أو مجلة استمرت سنوات وسنوات حتي تشكلت الأفكار الرئيسية، كما يقول فاروق خورشيد في كتابه »الأدب والصحافة« فالدور العظيم الذي قامت به صاحافتنا في مطالع النهضة الحديثة دور مؤثر ومرصود وأن الاحترام الذي كانت تتمتع به صحافتنا في كل الأوساط كان يعود بالمحل الأول الي احترامها لعقلية قرائها واحترامها لأهمية الأدب ودوره في حياتنا كما أنالإزدهار الذي حظي به أدبنا كان يعود الي اهتمام صحافتنا به وتقديرها لمكانه.، وكما تؤكد الباحثة عزة عبد العزيز في اطروحتها عن الأدب والصحافة إن الصحافة في مصر والعالم العربي خرجت من معطف الأدب وتولي كبار الأدباء رئاسة تحرير الصحف والمجلات وأن الكتابة الصحفية بدأت علي أيدي كبار الأدباء والكتاب الذين حرصوا علي اجتذاب جماهير القراء علي اختلاف مستوياتهم الفكرية.لكن الحديث، كما يشير الكاتب فاروق عبد السلام في صرخته عن الصحافة الثقافية في مصر موضوع ذو شجون، لما لها »أي الصحافة« من تأثير واضح علي المشهد الثقافي والعاملين به منذ ظهورها في جريدة »الوقائع المصرية« عام 1832 ذلك لأن هذه الصحافة وعبر مسيرتها الطويلة أسهمت في تطوير الأدب وتوسيع دائرة المهتمين به ومنحت أدباء وشعراء مساحة يتعرف الجمهور فيها علي نتاجاتهم الإبداعية، فقد بدأ الدور الكبير والهام للصحافة الثقافية في عشرينيات القرن الماضي، إذ كانت الصحافة عاملا نشطا في تحريك المشهد الثقافي عموما، كما أنها وبما كانت توفره من مساحات لنشر وجهات النظر المتعارضة استطاعت أن تجتذب أدباء ومثقفين من تيارات فكرية مختلفة في الرؤية وفي الطرح مما أسهم في توسيع دائرة المهتمين بمتابعة هذا السجال الفكري الأمر الذي انعكس إيجابا علي الأدباء وعلي المتلقين وأشاع روح البحث والتحليل.ولعل أبرز ما يمكن تسجيله هنا أيضا، علي الصحافة المصرية خلال السنوات العشر الأخيرة؛ يتمثل في تصّدر غير المهنيين علي المهنة وتراجع الأعراف والقيم بشكل مهين. (7) نعم إن الثقافة أسبق من الصحافة، بل إن الأدباء حين أقاموا الصحافة علي أكتافهم وضعوا لهذ الكتابة تقاليد بذاتها، ولا تزال، ويمكن الرجوع الي دراسة الدكتور »مرعي مدكور« عن الصحافة الأدبية في هذا السياق، تراجعت الصحافة الثقافية الا قليلا ، دورا وتشكيلا، لكن دار أخبار اليوم ، كسرت إلا قليلا ، بل فعلت هذا الدور وخصصت جريدة بأكملها للأدب والثقافة، لا تزال صامدة ، ومثابرة، منذ مشروع أستاذنا علي أمين الذي بث فيها الروح أستاذنا ابراهيم سعده منذ بداية عقد التسعينيات، وفي اللحظة الراهنة يؤكد الأستاذ محمد الهواري رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم استمرارية هذه الاستراتيجية مع التطوير والتجديد والمزيد من التنوير والعنفوان، وتسخير كل الإمكانيات ل »أخبار الأدب« إيمانا بدور الكلمة الثقافية القائمة علي تعددية أصواتها ومؤثراتها وتأثيراتها ولو علي المدي البعيد، فالثقافة هي السد العالي الفكري ، المنيع بذاته وفي ذاته، والإبداع الحقيقي هو عنوان حضاري ومتحضر للشعب والأمة، ليس ترفا ولا ديكورا ، ولا عنصرا تجميليا ولا تكميليا. ولن يكون... ولأوجاع الصحافة الثقافية بأشواقها وعذاباتها.... بقايا !.