الروائي الراحل جمال الغيطاني (1945 – 2015)، الذي تحل اليوم 18 أكتوبر الذكرى الثانية لرحيله، أحد الكتاب الذين صنعوا لأنفسهم طابعًا خاصًا وسمة مميزة اقترنت باسمهم أينما ذكروا. الغيطاني ابن قرية جهينة بمحافظة أسوان، الذي انتقل في طفولته لحارة الطبلاوي بحي الجمالية العريق، نشأ مفتونًا بالحكي منذ الصغر، يمتلك خيالًا جامحًا وقدرة على سرد أكثر الحكايات غرائبية. يروي لنا الغيطاني، في الاحتفالية التي أقيمت بدار الأوبرا المصرية قبيل رحيله بفترة قصيرة احتفالًا ببلوغه عامه السبعين، يروي كيف كان مفتونًا باختلاق الحكايات الغرائبية منذ الصغر، يقص على شقيقه حكايات خرافية عن سراديب سرية يعثر عليها في حيهم، يخوض فيها ليواجه كائنات خرافية. بجانب حبه الفطري للسرد وخياله الباحث عن العجائب، نشأ الغيطاني في بقعة ساحرة بالقاهرة، حي الجمالية الذي يحكي قصة القاهرة المملوكية بقصورها ومساجدها ومدارسها، حيث دارت حوادث ساهمت في تغيير وجهة التاريخ، وحكم أحد أهم البلاد في المنطقة، وحيكت مؤامرات ودسائس، وعلقت رؤوس على أعمدة. شأنه شأن غيره من أبناء جيله كانت تجربة الاعتقال في السجون الناصرية، ثم الاصطدام بهزيمة يونيو 1967، عاملًا مهمًا في تشكيل ملامح تجربته الإبداعية. الغيطاني الذي اعتقل عام 1966 وأطلق سراحه في مارس 1967 – أي قبل النكسة بأربعة أشهر فقط- استندت تجربته الإبداعية على ذكريات السجن، وما يلاقيه المعتقلون من تعذيب جسدي ونفسي، وما يعكسه ذلك كله من تغول للدولة البوليسية، ثم النكسة وما أدت إليه من تشوه في الشخصية المصرية، أو صدمة على أقل تقدير. وفي حين اتجه أقرانه ممن عايشوا التجربة نفسها إما إلى الخطاب السياسي المباشر، كما في تجربة صنع الله إبراهيم، أو إلى تيار الوعي للتعبير عما يعتمل داخل شخصياتهم من صراعات وانكسارات، كما سنرى في تجربة الراحل علاء الديب (1939 – 2016)، لجأ الغيطاني إلى التاريخ، ليتوقف عند مرحلة حاسمة في التاريخ المصري هي مرحلة مصر المملوكية، وتحديدًا الفترة الأخيرة قبل الغزو العثماني، حيث رأى التاريخ يعيد نفسه كما تقول العبارة الشهيرة. عام 1969 صدر للغيطاني "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" وفيها يستنطق التاريخ الذي رأى في أحداثه تشابهًا مع ما عاشته مصر في الستينيات، الظروف نفسها والنهاية نفسها، من خلال أوراق متخيلة للمؤرخين اللذين عاشا في العصر المملوكي ابن إياس وابن سلام، بالإضافة للفصل الذي سجل فيه تجربته في السجن "هداية أهل الورى لبعض مما جرى في المقشرة"، والمقشرة هو أحد أشهر السجون في مصر المملوكة، وهو السجن الذي شهد فظائع تمثلت في ابتكار وسائل شديدة القسوة في تعذيب السجناء، ولا يتناول الغيطاني السجن من زاوية السجين، إنما من زاوية السجان نفسه في محاولة للتحليل النفسي للسجان، أداة القهر وذراع الاستبداد. هذه الرغبة في الغوص في شخصية السجان، أو بالأحرى شخصية ممثل الدولة البوليسية استمرت معه حتى عام 1974 حين أصدر "الزيني بركات" التي تعد إحدى أشهر رواياته. يضرب الغيطاني في "الزيني بركات" على الوتر نفسه، وتر التاريخ، عائدًا إلى "بدائع الزهور" ليستعيد شخصية والي الحسبة الزيني بركات، والشهاب الأعظم زكريا بن راضي. الفترة التي تتناولها الرواية هي الفترة التي تسبق الغزو العثماني مباشرة وسقوط دولة المماليك، وما شهدته هذه الفترة من استفحال لقوة "البصاصين" الذين انطلقوا في أرجاء مصر المملوكية يعدون على الناس أنفاسهم. جاءت "الزيني بركات" نتيجة لعوامل عديدة، أهمها في تقديري، تجربة معاناة القهر البوليسي في مصر خلال الستينيات... عانينا من الرقابة في الستينيات، وأسلوب التعامل البوليسي، وأتصور أن هذا كان أحد أسباب علاقتي القوية بالتاريخ، كنت مهموما بالبحث في تاريخ مصر، وبقراءة هذا التاريخ خاصة الفترة المملوكية، التي وجدت تشابها كبيرا بين تفاصيلها وبين الزمن الراهن الذي نعيش فيه... وعندما طالعت مراجع شهود العيان الذين عاشوا هذه الفترة، ذهلت من تشابه الظرف بين هزيمة 67 والأسباب التي أدت إليها وبين هزيمة القرن السادس عشر، وأوصلني هذا فيما بعد، إلى ما يمكن أن يسمى باكتشاف وحدة التجربة الإنسانية في مراحل كثيرة من التاريخ حتى وإن بعدت المسافة، على سبيل المثال: الألم الإنساني واحد." هكذا قال الغيطاني عما دعاه لاستنطاق التاريخ، وصدمته في التشابه الكبير بين الحقبة التي عاشها وتلك الحقبة البعيدة، حقبة المماليك، التأثر بالتراث المتمثل في الكتابات التاريخية وأيقونة الحكايات الغرائبية "ألف ليلة وليلة" يترك أثره على لغة الغيطاني، وتقنياته السردية في "هاتف المغيب" التي يصفها الناقد د.صلاح فضل ب"الفانتازيا" السياسية. الغيطاني العاشق للقاهرة القديمة وتاريخها وتراثها المعماري ما كان له أن يفوت فرصة الحديث عن تاريخ هذه المدينة التي شهدت تقلبات لا تقصى، فقدم "ملامح القاهرة في ألف سنة" الذي قدم جولة تاريخية تتنقل من منطقة إلى أخرى، في وصف للأزياء والمعمار، وبالطبع المقهى الذي كان تيمة أساسية في أعمال أستاذه نجيب محفوظ الذي ارتبط به ارتباطًا شديدًا ليصبح أحد أفراد شلته، يقدم الغيطاني سردًا لتاريخ المقهى، ومحتوياته وأهمها النارجيلة بأشكالها ومراحل تطورها وأنواع تبغها. باللغة التراثية نفسها كتب الغيطاني دفاتره السبعة "دفاتر التدوين" التي قدم فيها مزيجًا من السيرة الذاتية المتمثلة في ذكريات مفككة ومتشظية غير منتظمة زمنيًا أو مكانيًا، مختلطة بتساؤلات فلسفية وصور رمزية عديدة متناثرة خلال الدفاتر التي اكتفى بوصفها بالدفتر مستعيضًا بذلك عن منحها وصف الرواية رغم طابعها السردي، الذي يبعدها كذلك عن السيرة الذاتية المحضة.