صراع الدوري.. البنك الأهلي يفاجئ بيراميدز بثنائية في الشوط الأول    سعر سبيكة الذهب في مصر بعد الانخفاض الجديد في جميع الأوزان    سقطت من الدور الخامس.. النيابة تحقق في مصرع ربة منزل بالعبور الجديدة    بوتين ل"السيسي": نقدر دور مصر في المنطقة وندعم خطة إعمار غزة    منظومة الدفاع الجوي الصينية HQ-9.. قوة ردع باكستانية أمام الهند    بوليانسكي: روسيا ترحب بإصلاح متزن لدور الأمم المتحدة    جمعية الخبراء: الضرائب الرقمية تحدد مسار قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات    الكرة النسائية.. الزمالك يخطف نقاط المقاولون بهدف نظيف    انطلاق قمة "رايز أب 2025" من المتحف المصري الكبير    بعد أزمتها مع الورثة.. لقطات من استقبال بوسي شلبي لعزاء محمود عبدالعزيز (فيديو)    قصور الثقافة: مكتبات وبيوت الثقافة التي تضم أندية أدب وفرقا فنية مستمرة في أداء دورها    قصص «أقفل المحضر في ساعته وتاريخه» لوئام أبوشادي ترصد الصمود الإنساني في وجه الأزمات    وزير الثقافة يصطحب نظيرته الفرنسية في جولة بالجناح المصري في بينالي فينيسيا للعمارة    فريق طبي بسوهاج الجامعي ينجح في استخراج «دبوس» من معدة طفل    حريق في عدد من المنازل بعزبة البهنساوى ببنى سويف بسبب ارتفاع درجات الحرارة    ستيف ويتكوف: ترامب يؤمن بالسلام عبر القوة ويفضل الحوار على الحرب    عمرو سلامة عن تعاونه مع يسرا: «واحد من أحلام حياتي تحقق»    نانسي عجرم تفاجئ جمهورها بإحياء حفلاً غنائيًا في إندونيسيا | صورة    خطيب الجامع الأزهر: الحديث بغير علم في أمور الدين تجرُؤ واستخفاف يقود للفتنة    تكريم رئيس هيئة قضايا الدولة في احتفالية كبرى ب جامعة القاهرة    إدارة القوافل العلاجية بالمنوفية تحصد المركز الثاني على مستوى الجمهورية    "بنقول للضحايا إحنا مباحث".. اعترافات عصابة الشرطة المزيفة ب"عين شمس"    الزمالك يحدد جلسة تحقيق جديدة مع زيزو    النيابة تصرح بدفن جثة شاب غرق بترعة أبيس في الإسكندرية    إمام المسجد الحرام: تأشيرة وتصريح الحج من لوازم شرط الاستطاعة    الدوري الألماني.. توماس مولر يشارك أساسيا مع بايرن في لقائه الأخير بملعب أليانز أرينا    تراجع جديد في أعداد قاطني مخيم الهول السوري    ترامب يوجه رسالة إلى الصين: الأسواق المغلقة لم تعد مجدية    فريق طبي بمستشفى سوهاج الجامعي ينجح في استخراج دبوس من معدة طفل    شهادات مزورة ومقر بدون ترخيص.. «الطبيبة المزيفة» في قبضة المباحث    مصرع عنصرين إجراميين في مداهمة بؤرًا خطرة بالإسماعيلية وجنوب سيناء    محافظ الشرقية يطمئن على نسب تنفيذ أعمال مشروعات الخطة الإستثمارية للعام المالي الحالي بديرب نجم    أمين الفتوى: المعيار الحقيقي للرجولة والإيمان هو أداء الأمانة والوفاء بالعهد    سجل الآن.. الوطنية للتدريب تطلق مبادرة "أنا أيضًا مسئول" لبناء وعي القيادة والمسؤولية لدى الشباب    الضرائب: 9 إعفاءات ضريبية لتخفيف الأعباء وتحفيز الاستثمار    ارتفاع توريد القمح المحلى إلى 128 ألف طن وزيادة التقاوى ل481.829 طن بالدقهلية    «المستشفيات التعليمية» تنظم برنامجًا تدريبيًّا حول معايير الجودة للجراحة والتخدير بالتعاون مع «جهار»    عقب أدائه صلاة الجمعة... محافظ بني سويف يتابع إصلاح تسريب بشبكة المياه بميدان المديرية    عاجل.. الزمالك يُصعّد: نطالب بحسم مصير "القمة" قبل 13 مايو لضمان العدالة في المنافسة على اللقب    الشباب والرياضة تنظم الإحتفال بيوم اليتيم بمركز شباب الحبيل بالأقصر    تنفيذ فعاليات حفل المعرض الختامي لأنشطة رياض الأطفال    رئيس جامعة الإسكندرية يستقبل وفد المجلس القومي للمرأة (صور)    مروان موسى: ألبومي الأخير نابع من فقدان والدتي    التموين تعلن آخر موعد لصرف الدعم الإضافي على البطاقة    "موسم لا ينسى".. صحف إنجلترا تتغنى ب محمد صلاح بعد جائزة رابطة الكتاب    هل يجوز الحج عن الوالدين؟ الإفتاء تُجيب    جدل فى بريطانيا بسبب اتفاق ترامب وستارمر و"الدجاج المغسول بالكلور".. تفاصيل    قناة السويس تدعو شركات الشحن لاستئناف الملاحة تدريجيًا بعد هدوء الهجمات    البابا لاون الرابع عشر في قداس احتفالي: "رنموا للرب ترنيمة جديدة لأنه صنع العجائب"    رئيس الوزراء يؤكد حِرصه على المتابعة المستمرة لأداء منظومة الشكاوى الحكومية    10 لاعبين يمثلون مصر في البطولة الأفريقية للشطرنج بالقاهرة    لجنة المشاركة السياسية بالمجلس تنظم ندوة لتوعية الشباب بجامعة بورسعيد    سائح من ألمانيا يشهر إسلامه داخل ساحة الشيخ المصرى الحامدى بالأقصر..فيديو    كاف اعتمدها.. تعرف على المتطلبات الجديدة للمدربين داخل أفريقيا    محافظ القليوبية يستقبل وفد لجنة الإدارة المحلية بمجلس النواب لتفقد مستشفى الناس    تحقيقات موسعة في العثور على جثة متعفنة داخل منزل بالحوامدية    التنمر والتحرش والازدراء لغة العصر الحديث    في ظهور رومانسي على الهواء.. أحمد داش يُقبّل دبلة خطيبته    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمال الغيطاني.. في حوار مع التراث
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 02 - 2016

يصعب تقييم هذا الكاتب الذي عمل بدأب ونشاط. وكان ملتزما منتظما مثابرا، يعمل بطريقة منهجية مكنته من إنجاز الكثير. كما كان منغمسا في الحياة العامة فتابع ما يجري من أحداث يومية. ولا يُنسي له فضل تأسيس أول صحيفة أدبية أسبوعية، أخبار الأدب لقت إقبالا عظيما من القراء في العالم العربي علي أوسع نطاق.
لا أظن أن الغيطاني كان لديه مشروع واضح وضعه صوب عينه وحاول أن يتممه في حياته مثل ما فعل بلزاك مثلا بالنسبة للكوميديا الإنسانية؟ ولكن يبدو أنه في بداية حياته كان يبحث عن طريقة مبتكرة يعبر بها عما يختلج في نفسه. لم ينفرد الغيطاني بهذا البحث، بل عاصر مجموعة من الفنانين شاركوه نفس الحيرة، هم من أطلقنا عليهم اسم الأدباء الشباب في ستينيات القرن العشرين، ثم عرفوا بعد ذلك بأدباء الستينيات. سلك كل منهم مسلكه الخاص. وكان الغيطاني شغوفا بالكتب والقراءة منذ نعومة أظافره فالتهم الكتب التهاما، كما كان يتمتع بذاكرة جبارة تختزن كل ما يقرأ. وبني لنفسه مكتبة خاصة زخرت بنوادر الكتب، خاصة في التراث العربي. فلم يترك مجالا من مجالات التراث لم يستكشفه ولم يقرأ فيه. ولم يكن التراث عند جمال الغيطاني مدفونا بين طيات الكتب، ولكنه ينبض بالحياة ويعيش حيا في نفوس الناس.
يقول في كتابه منتهي الطلب في تراث العرب : دراسات في التراث:
لحسن الحظ أنني بدأت أكتشف التراث داخلي منذ مرحلة مبكرة. التراث كامن داخلنا، في سلوكنا، في حياتنا اليومية، وأعني بذلك التراث بمفهوم شامل لا يقصره علي حقبة معينة، أو اتجاه معين، أعني التراث العربي المكتوب، والشفاهي، العمارة، الرسم، سائر الفنون،...( منتهي الطلب ص.5).
يقول الغيطاني هذا الكلام في مرحلة متأخرة من حياته العملية ولكنه اكتشف أسلوب كتابة مستقاة من التراث منذ خطواته الأولي.
توجه الغيطاني نحو الشرق وأخذ يبتعد عن الغرب ورأي أننا أهملنا تراثنا الزاخر بالدرر والنفائس التي يمكن أن تغذي نفوسنا وأرواحنا وعقولنا. فبعد أن كان ينوي دراسة الفرنسية، أهملها وانطلق إلي الغوص في ذخائر التراث علي مختلف أنواعه وأشكاله. ولا أعلم ما إذا كان أحدا اطلع علي محتويات مكتبته الخاصة؟ إذ يبدو أنه جمع كما هائلا من الكتب التي أودعها ذاكرته وأخذ ينهل منها علي مر السنوات.
قبل ابتكار الورق، كانت الكتابة تتم علي أفرخ من الجلد أو الخشب. ولما كانت هذه مرتفعة التكلفة، لذا كانت تستخدم أكثر من مرة؛ فيمحي ما عليها من كتابة، ويكتب عليها الجديد. ويطلق عليها اسم الطرس palimpseste. فالطرس هو الصحيفة التي محي ما كتب عليها ليكتب عليها مرة أخري. كان التراث هو الطرس الذي يكتب عليه الغيطاني أعماله. إذ كان مفتونا بالمخطوطات والكتب القديمة، وكل ما تبقي من زمن مضي وانقضي وترك وراءه آثارا تكون في كثير من الأحيان ملغزة وتحتاج إلي إعادة كتابة. مثل تلك الأوراق التي تركها شاب مجهول الهوية، اكتشفت بعد ألف عام في أطلال بيت مهجور تقص هزيمة 1967 أي أن الغيطاني استنسخها سنة 2967، في أوراق شاب عاش منذ ألف عام، في مجموعته الأولي التي صدرت سنة 1969 ووجد الغيطاني طريقه منذ ذلك الوقت المبكر، فأعاد ابن إياس إلي الحياة، وأعاشه في زمننا، في قصة المقتبس من عودة ابن إياس إلي زماننا، ثم جعل من ابن سلام شخصية في قصة كشف اللثام عن ابن سلام.
يمكن القول إن الغيطاني أعاد التراث العربي إلي الحياة، وفعل هذا بوسائل متعددة وسأتوقف هنا عند ثلاث محطات اعتبرها أهم إنجازاته في علاقته مع التراث العربي، الأولي في علاقته مع ابن إياس في كتابه الضخم بدائع الزهور في وقائع الدهور، و طرسه هو رواية الزيني بركات. والثانية في علاقته بابن عربي في التجليات الإلهية، ورسالتيه: الإسرا في المقام الأسري أو معراج ابن عربي، وكتاب الإسفار في نتائج الأسفار. وطرسها هو كتاب التجليات في أجزائه الثلاث. أما المحطة الثالثة فهي ألف ليلة وليلة، وطرسها كتابه الأخير حكايات هائمة، وهي في رأيي تتويج لأعماله، أودع فيها رحيق التراث الذي تقطر في ذاكرته وامتزجت فيه قراءات العمر وخبراته الذاتية وصيغت في شكل حكايات مكتملة الشكل والصياغة وهي طرس نستشف من خلاله مئات القصص والنوادر والطرائف والخواطر، والأساطير والأمثال والغرائب.
أبدأ برواية الزيني بركات التي صدرت في سنة 1947 رغم الشقة الزمنية التي تفصلني عن قراءتي الأولي لها، فإني ما زلت تحت وطأة إعجابي بها. هذه الرواية تختلف عن الرواية التاريخية التقليدية. نجح الغيطاني أن يطرح فيها تصورا جديدا وعميقا للكتابة الروائية التاريخية، فقرأ ابن أياس قراءة المتفحص واستوعب البدائع ثم أعاد كتابتها.
تعرضت مصر والعالم العربي لمحنة هزت كيانه وبنيانه في سنة 1967 وأقول إن هذه الهزيمة كانت الدليل علي فشل الحكم الناصري وتأثر الغيطاني شأنه شأننا جميعا بهذه الهزيمة وجاءت رواية الزيني بركات تعبيرا عن هذه الصدمة. والسؤال المطروح هنا لماذا لجأ الغيطاني إلي ابن إياس ليقدم هذه التجربة النكراء؟ هل لأن التاريخ يعيد نفسه؟ هل هزيمة عبد الناصر في سنة 1967 هي نفسها الهزيمة التي انكسر فيها السلطان الغوري في مرج دابق؟ وقعت هذه المعركة في 8 أغسطس سنة 1516 بين العثمانيين والمماليك قرب حلب في سوريا. قاد العثمانيين السلطان سليم الأول وقاد المماليك قانصوه الغوري. ساءت العلاقة بين العثمانيين والمماليك وفشلت محاولات الغوري عقد صلح مع السلطان العثماني فاحتكما إلي السيف والتقيا عند مرج دابق حيث هزم المماليك وقتل السلطان الغوري. كانت هذه المعركة نهاية حكم المماليك في مصر واستيلاء العثمانيين عليها.
لماذا اختار الغيطاني هذه المعركة ليضعها في موازاة هزيمة 1967 ؟ هل انهزم المصريون أمام الإسرائيليين لنفس الأسباب التي أدت إلي سقوط دولة المماليك؟ ويقال إنها الخيانة؟ أم هناك أسباب أخري خفية تنخر في الدولة وتؤدي إلي انهيارها؟ استشف الغيطاني في نص ابن إياس خيوط دقيقة في نسيج نصه تشبه تلك التي نجدها في لحمة التاريخ المصري وهي بنية الدولة البوليسية التي يحكمها فريق البصاصين الذين يقهرون الشعب المصري ويوقعون به أفظع ألوان الظلم والاضطهاد والتنكيل. وبينما كان كبير البصاصين، الزيني بركات، ظاهرا عند ابن إياس، فإنه مختف عند الغيطاني. فبطل الرواية هو الغائب/الحاضر الذي يمثل الخوف والرعب الذي ينهش قلوب خلق الله. يقدم لنا جمال الغيطاني في هذه الرواية الشيقة المحكمة الصنع نظرية متكاملة عن التاريخ، فالتاريخ لا يصنعه كبار القوم ولكنه موجود في حيوات صغار الناس مثل المجاورين والمشايخ والباعة والرحالة الأجانب الذين يزورون البلاد. وقد عاني جمال الغيطاني من تجربة السجن التي مر بها سنة 1966 ولم تنمح آثار هذه الفترة من ذاكرته عندما تحدث عنها بعد مرور40سنة في ندوة قائلا عانينا من الرقابة في الستينيات وأسلوب التعامل البوليسي وأتصور أن هذا كان أحد أسباب علاقتي القوية بالتاريخ. كنت مهموما بالبحث في تاريخ مصر وبقراءة هذا التاريخ خاصة الفترة المملوكية التي وجدت فيها تشابها كبيرا بين تفاصيلها وبين الزمن الراهن الذي نعيش فيه.
كان الغيطاني ملتصقا بالمؤرخين في هذه المرحلة المبكرة من حياته، وجاءت رواية الزيني بركات ثمرة هذا الالتصاق. ولكن سرعان ما اتسعت الدائرة و جذبته مؤلفات أخري في مجالات متعددة.
المحطة الثانية عند كتاب التجليات : الأسفار الثلاثة الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يسرد الغيطاني الكثير عن حياته في لغة يريدها مستشفة من اللغة الصوفية، تسير عبر الصفحات في شكل أسفار ثلاثة كما اختار صاحبها أن يسميها: (السفر الأول 1983) و(السفر الثاني1985) و(السفر الثالث 1986). وهو مجموعة من التجليات الأدبية مقسمة إلي ثلاثة فصول الأول فصل الميلاد والغربة، والثاني الاغتراب والضنا والقربي والحزن، والثالث الوداد والفوت والوداع.
طرح هذا الكتاب مجموعة من الأسئلة لم يقدم عنها إجابة شافية. يقول إنه استلهم هذا الكتاب من الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. وكان استلهام ابن عربي نتيجة لتجربة روحية مر بها بعد وفاة والده في سنة 1980 أثناء سفره. هزته هذه الصدمة علي الصعيد الشخصي مثلما فعلت صدمة 1967 علي الصعيد العام. يقول الغيطاني إن هذه الصدمة دفعته إلي إعادة قراءة ابن عربي بعدما كان قرأه من قبل.
كيف تعامل الغيطاني مع نصوص ابن عربي. هل خاض تجربة صوفية بمعناها الإشراقي؟ وماذا نعني عندما نقول إن التجليات رواية صوفية؟ إنني في واقع الأمر أستبعد هذه التسمية وأري أن الغيطاني سار في هذا العمل مسار ما يمكن أن نطلق عليه السيرة الذاتية الروحية، وأنه لم يتعمق في أعمال ابن عربي الكبري مثل الإشارات الإلهية، أو فصوص الحكم أو حتي ديوانه ترجمان الأشواق. هذه الكتب من أصعب كتب التراث العربي ولكي ينفذ القاري إلي مغاليقها لا بد له من مجاهدة روحية لا أظن أن الغيطاني مر بها. وجدير بالذكر إن التجليات الإلهية لابن عربي لا توجد منه نسخ مخطوطة، سوي من خلال نسخة سماعية لأحد شراحه وهو ابن سودكين.
وأتفق مع الغيطاني عندما قال إنه ليس متصوفا وأنه في كتاب التجليات لا يشبه الابن أباه، أي إنه لا يسير علي خطي ابن عربي، بل إن أباه الروحي هو نجيب محفوظ. فالغيطاني لا يسير في المجاهدة الصوفية ولم يتعمق في البحث عن المعاني المستغلقة في كتب المتصوفة الكبار، فعالمهم ليس عالمنا ومعجمهم ليس معجمنا. وقد نقع في أخطاء جسيمة إذا حاولنا فهم كتب المتصوفة بأدواتنا الدنيوية.
وأري أن كتاب التجليات هو في واقع الأمر رحلة يتمازج فيها الواقعي والنفسي والخيالي، وإذا كان لي أن اختار النصوص التي تتكشف لي تحت الطرس الغيطاني، فإني أجد ثلاث رسائل لابن عربي (558ه-638ه) هي: الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار و الإسفار عن نتائج الأسفار و كتاب الإسرا إلي مقام الأسري وتعرف هذه الرسالة الثالثة أيضا بمعراج ابن عربي.
لم يكن ابن عربي هو المتصوف الوحيد الذي ألف كتابا حول موضوع المعراج. فنجد »كتاب المعراج« لإمام الصوفية عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسباوري (376ه465)، وصاحب »الرسالة القشيرية« في علم التصوف، وهو من كبار العلماء في الفقه والتفسير والحديث والأصول والأدب والشعر، والملقب ب»زين الإسلام». كما نجد أثر قصة المعراج في »رسالة الطير« لابن سينا (370ه-427ه)، والسهروردي (549-568ه) و»عنقاء« أبي حامد الغزالي،(450ه-505ه) و»رسالة الغفران« للمعري (363ه-449ه) ، وسلك هذا الطريق عدد من المتصوفة الآخرين سواء في التراث العربي أو غيره. ففي التراث الفارسي كثير من القصائد والكتب التي استلهمت هذه القصة. كما نجد في المسيحيةقصصا لرحلات إلي العالم الآخر قبل كتاب دانتي الكوميديا الإلاهية، فللسيدة مريم العذراء معراج وأيضا لكثير من القديسين.
ويبدو لي أن الغيطاني في كتاب التجليات لم يكن من مريدي المتصوفة قدر ما كان يسير في طريق القصاصين الشعبيين الذين يسبحون بخيالهم في العوالم العليا والسفلي وكانت الحياة بالنسبة له سفرا يمر بتجارب تترك بصماتها علي صفحة مرآة النفس، وهذه التجارب قد تتحول إلي أحلام، إلي رؤي وهواجس، أو إلي كوابيس. تنطلق من الميلاد إلي الوداع مثل النهر العظيم الذي يحمل مع مياهه الهموم والمسرات والأفراح والأتراح، العذابات والملذات. هذه الرحلة تختلف عن رحلة المتصوف الذي يتوجه نحو الله فعند ابن عربي:
الأسفار ثلاثة لا رابع لها أثبتها الحق عز وجل وهي سفر من عنده، وسفر إليه، وسفر فيه، وهذا السفر فيه هو سفر التيه والحيرة فمن سافر من عنده فربحه ما وجد وذلك هو ربحه، ومن سافر فيه لم يربح سوي نفسه، والسفران الأولان لهما غاية يصلون إليها ويحطون عن رحالهم، وسفر التيه لا غاية له، والطريق التي يمشي فيها المسافرون طريقان طريق البر وطريق البحر. قال الله عز وجل:؛هو الذي يسيركم في البر والبحر.
ومن هذه الفقرة يظهر أن اللغة الصوفية لغة مشفرة يصعب فهمها لغير المتمرس عليها فما هي هذه الأسفار التي يتحدث عنها ابن عربي؟ ما هو سفر التيه؟ نخطئ إذا حاولنا فهم هذا المصطلح طبقا لقواميس اللغة لأنه يحمل معاني أخري باطنية.
ويعرف الشيخ الأكبر التجليات، من حيث هي أصل المعرفة، علي النحو التالي:
التجلي هو ما ينكشف للقلب من أنوار الغيب وهذا التعريف يبين لنا حقيقة المعرفة وأداتها وموضعها كما يراها ابن عربي، فالمعرفة هي انكتشاف حقيقة الشيء، أو ماهيته أمام نظر العارف. وهذا الانكشاف يتحقق رمزيا برفع الحجاب أو حجب القلب. ويكون ذلك بفضل التجليات الإلهية، أي تقذفها أنوار الغيوب في أعماق القلوب.
وإذا ما تأملنا تعريف ابن عربي للتجلي نري أنه يختلف عما أتي به الغيطاني، فالتجلي عند الغيطاني هو مزيج من الذكريات والتخييلات وأحلام اليقظة، من الواقع واللاواقع. ويقول في افتتاح كتابه:
فكان هذا الكتاب الذي يحوي تجلياتي وما تخللها من أسفار ومواقف وأحوال ومقامات ورؤي، وهذا كتاب لا يفهمه إلا ذوو الألباب، وأرباب المجاهدات، أما إذا أظهر البعض استغلاق الفهم أو الملامة فإني أتلو : قال فما خطبك يا سامري، قال بصرت بما لم يبصروا به صدق الله العظيم
وما أعنيه هو أن جمال الغيطاني ليس مريدا من مريدي ابن عربي، ولكنه يسير في درب من دروب التصوف الشعبي الذي يختلف عن التصوف العالِم، فللشعب معتقداته وأساطيره وقصصه التي تغذي المخيلة الشعبية وتتوارثها الأجيال، جيلاً إثر جيل. ولكل شخصية من الشخصيات الإسلامية هالة من التقديس وحكايات حيكت حول حيواتها نهل منها الغيطاني منذ طفولته. ويمكن القول إن ابن عربي في تجليات الغيطاني هو دليله في رحلته الروحية وليس مستلهمه الوحيد. وللأولياء وجود عميق الجذور في الريف المصري ولا نغالي إذا قلنا إن كثيرا من القري المصرية شهدت وجود مجذوب من المجاذيب له دوره في تكوين البنية الاجتماعية للقرية. هذا النوع من التصوف الشعبي له قيمته وهو فرع من فروع شجرة الدين الشعبي الذي يقال عنه دين العجائز كما جاء في قصة العجوز مع الرازي:
مر الرازي يوما علي امرأة عجوز وهو في الشارع وكان تلاميذه يمشون وراءه بالعشرات ما يقول كلمة إلا ويكتبونها ، فتعجبت العجوز من هذا الذي وصل إلي هذا المستوي ، فنادت العجوز علي واحد من التلاميذ وقالت » يا بني من هذا « فغضب .. غضب وقال أما عرفته هذا الإمام الرااااااااااازي الذي عنده ألف وألف دليل علي وجود الله تعالي.
هنا قالت العجوز قولتها العجيبة والشهيرة »ا بني لو لم يكن عنده ألف شك وشك ما احتاج لألف دليل ودليل، أفي الله شك ؟«
فلما بلغ هذا الإمام الرازي قال »اللهم إيمانا كإيمان العجائز«.
لا أظن إنني أخطأت في قراءتي هذه للتجليات لأنها تأكدت لي عند قراءتي لكتاب الغيطاني الأخير حكايات هائمة وهو آخر كتبه؛ ولم نكن ندري عندما صدر هذا الكتاب في فبراير سنة 2015 أن هذا الكتاب هو الكلمة الأخيرة أو أغنية البجعة إذ فارق الحياة في 18 أكتوبر من نفس السنة.
كان جمال الغيطاني مفتونا بكتاب ألف ليلة وليلة ويري أنه أعظم كتب القص في الأدب كافة، وكان يحلم بأن يكتب كتابا مثله. فهل حاول أن يحقق ذلك في كتاب حكايات هائمة؟
قال الغيطاني في حوار حول مسيرة حياته مع جريدة الحياة في يونيو 2015 أي قبل أن يصاب بالغيبوبة التي أودت بحياته بشهرين.
منذ أن بدأت وأنا لديّ هاجس بأن أخط شيئاً لم يُكتَب مثله ولم أقرأه من قبل، كنت أقول ذلك لنفسي منذ كنت في العاشرة، وأظن أنني احتجت إلي أن أعمل 60 عاماً كي أكتب »حكايات هائمة« التي تخلصت فيها من كل الأشكال المسبقة، وتحررت من كل القيود ومارست فيها حرية وجرأة كنت أتردد في ممارستها من قبل. فلم تعد لديّ رواية بالشكل الثابت.
انطلق جمال الغيطاني في هذا الكتاب الانطلاق الكبير، واستطاع أن يشق طريقا مبتكرا بعد كل هذ الجهد الجهيد الذي بذله علي مر ستين عاما. لم يلتفت إلي أي كتاب أو كاتب، إلي أي مصدر أو شكل من أشكال الكتابة ولكنه انتهج نهجا جديدا. يفوح من هذا الكتاب عبق غريب. شذي أزمنة قديمة. جو من الغرابة هو أقرب إلي جو الحكايات الشعبية والأسطورية، التي يقدمها الحكواتي. وقد ترددت كثيرا قبل أن استخدم هذه التسمية لما فيها من ظلال ومعان ترتبط بالتراث الشعبي غير أنني في النهاية رأيت أنها تنطبق علي ما يقدمه لنا الغيطاني في هذا الكتاب. وشجعني علي ذلك اختياره لعنوان الكتاب بأنها حكايات وليست قصصا.
أما بالنسبة لهيمان حكاياته فإني أري أن الطرس الذي نستشفه وراءها هو ألف ليلة وليلة فقد كان يحلم بأن يكتب لياليه. وربما استلهم فكرة الهائمة من تاريخ ألف ليلة ولية. فمن المعروف أن حكاياتها ظلت تتداول لعدة قرون عبر الحدود بين العالم الإسلامي والمسيحي، وتتنقل بكل طلاقة وحرية بين الألسنة والأقلام، وفي النهاية استقرت الليالي علي الصورة التي نعرفها، حينما قام العالم والاثري الفرنسي أنطوان جالان بجلب مخطوطة لها تعود إلي الفترة ما بين القرنين الرابع والخامس عشر من سوريا خلال رحلاته إلي الشرق الأوسط، وتمت ترجمتها في سبعة مجلدات تحت عنوان ألف ليلة وليلة حيث ظهرت لأول مرة بين 1701 إلي 1706 ويمكن القول إن حكايات الغيطاني ظلت هائمة في مخيلته لما يزيد علي نصف قرن حتي استطاع في النهاية أن يجمعها بين دفتي هذا الكتاب.
أطلق العنان لمخيلته وتركها تحلق مثل العنقاء التي تولدت من الرماد وكأن الغيطاني أحرق الكتب التي قرأها وأخذ ينهل من مخزون هائل من الذكريات التي هي نسيج من المقروء والمعاش لا تستطيع أن تفرق بينهما. وهنا يعلمنا الغيطاني أننا لانمتلك ما نقرأ إلا إذا نسيناه، ويمكن أن تعبر قصة أبي تمام مع خلف الأحمر عما أعني:
استأذن أبو نواس خلفًا الأحمر في نظم الشعر، فقال له: لا آذن لك في عمل الشعر إلا أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة. فغاب عنه مدة وحضر إليه، فقال له: قد حفظتُها. فقال له خلف الأحمر: أَنشِدْها. فأنشده أكثرها في عدة أيام. ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر، فقال له: لا آذن لك إلا أن تنسي هذه الألف أرجوزة كأنك لم تحفظها. فقال له: هذا أمرٌ يصعب عليَّ، فإني قد أتقنت حفظها. فقال له: لا آذن لك إلا أن تنساها. فذهب أبو نواس إلي بعض الأديرة، وخلا بنفسه، وأقام مدّة حتي نسيها. ثم حضر فقال: قد نسيتها حتي كأن لم أكن حفظتها قط. فقال له خلف: الآن انظم الشِّعر!
سبق أن كتبت عن حكايات هائمة وما أريد أن أضيفه هنا هو أن الغيطاني أودع فيها مخزون خبراته الإنسانية والفنية والكتابية فأخذ ينحت لنفسه في هذا الكتاب ما أسماه إدوارد سعيد الأسلوب المتأخر (late style). ألا يتمني كل فنان أن يحرز أسلوبا متأخرا؟ أسلوبا يعكس حياة من التعلم، من الحكمة والأسي، أسلوبا يثبت إتقان الحرفة إلي الحد الذي لا يحتاج إلي برهان. أسلوبا يلخص كل ملابسات الحياة، يتأمل الأسئلة المجاب عليها، ويطرح أسئلة أخري تفوق القدرة علي الفهم؟
وجدت في هذا الكتاب شقين :
شق يعبر عن فلسفة الحكي ، فما الحكي؟
إننا لا نحكي لنعبر الوقت، لنتسلي ولكن لنكشف الكامن فينا وفي الآخرين، لعل استمراري يرسيني علي فهم ما لم أفهم . (468)
أما الشق الآخر فهو استخلاص رحيق حياة بأكملها ووضعها بين دفتي كتاب.
استطاع الغيطاني أن يحقق حلمه القديم، أن يكتب كتابا مثل الليالي في شكل حديث متألق. تستقر حكاياته الهائمة في نفوسنا بعد أن عبرت بحار السنين، وقطعت مسافات من الأخضر واليابس، وجالت في ساحات المعابد الفرعونية، والأزقة القاهرية، والمتاحف الأمريكية، بعد أن غاصت في غياهب السجون. وانطلقت ترفرف علي أجنحة اليمام حاملة أسئلة الشك والبحث عن اليقين.
10 فبراير 2016


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.