تحول موت الكاتب إبراهيم أصلان إلى حقيقة ينبغي على الجميع التعامل معها، باستثناء أسرته الصغيرة الممثلة في ابنيه الوحيدين هشام وشادي أصلان وزوجته التي كان يناديها ويناجيها في مقالاته ب"أم هشام"، فلدى هذه العائلة تركة ثقيلة، لكنها لا تتعلق بإرث مادي. فالكاتب الراحل عاش حياته مستورا بالمعنى العميق للكلمة، لم يترك أموالا في البنوك ولا عقارات اللهم بضع أوراق تمثل خلاصة تجربته، فقد اهتم دائما بالأناقة التي لم تكن بعيدة عن سر من أسرار فنه يتعلق بأناقته الأسلوبية التي لم تخف عن أحد ولذلك فإن التركة التي أقصدها تتعلق بأعماله التي كان قد أعدها للنشر ولم يطمئن الى قرار نهائي بشأنها لأنه كان يتشكك في كل جملة يكتب من باب العناية بالكتابة التي لطالما رآها فنا من فنون الحذف. ويعرف المقربون من أصلان أنه قد انتهى فعليا من كتابة نصين رئيسيين هما تمارين على الابتسام أو “مشاهد حول سور قديم" التي تحولت في أيامه الأخيرة الى نص طويل بعنوان “صديق قديم" يستكمل ما كان قد بدأه في متتواليته القصصية الأخيرة التي حملت عنوان “ حجرتان وصالة “ وتأملت في شكل الحياة في بيت عجوزين تزوج أولادهما وتركاهما نهبا للوحدة. كتب صاحب “وردية ليل" في “الأهرام" طوال ما يقرب من ثماني سنوات لم يمنع له خلالها، إلا مقال واحد أعاد نشره في صحيفة “الحياة" التي يكتب بها، وكان المقال المكتوب في يناير من العام الماضي عن “محمد بو عزيزي" مفجر ثورة تونس التي أطلقت زهور ربيع ثورات العالم العربي. ومن اللافت لي أن أصلان رفض المتاجرة بهذا الرفض شأن رفضه للمزايدة على موقفه من المقابلة التي دعي لها مع مبارك قبل أيام من تنحيه ويومها اعتذر أصلان للمسؤلين بزعم السفر للخارج لكنه قضى الليلة كلها بصحبة الأصدقاء في أحد مقاهى وسط البلد يسخر من فكرة اللقاء مع ديكتاتور، ففي أعوامه الأخيرة اعتنى كثيرا بالعلاقة مع الشأن العام شارك في تجمعات كفاية وأدباء وفنانين من أجل التغيير. وليلة أن التقي ود. محمد البرادعي، هاتفني قائلا “بيفهم الراجل ده يا أبو السيد“ يبقى حظنا كويس لو رضي يحكمنا. ونجح أصلان في مقالاته التي كتبها للأهرام أن يعيد الاعتبار لفن المقال الأدبي وهو فن تعرض لإهمال متعمد من وجهة نظره بعد غياب يحيي حقي الذي نظر إليه دائما ك"جبل شاهق “ من جبال الكتابة ولذا تمكن من اعادة الاعتبار لهذا الفن مستندا إلى معرفه بتراثه سواء كان مصدره كتابات حقي أو إبراهيم المازني . ومن مقالات الأهرام نسج أصلان كتاباته الأخيرة ومنها “خلوة الغلبان"، “وشيء من هذا القبيل" وكتابه الذي لم يتمكن من الانتهاء منه وأعطاه عنوانا مؤقتا هو “صديق قديم" وتمارين الابتسام وهي نصوص باتت اليوم عهدة في ذمة أسرته وفي هذا النوع من الكتابة تحرر من عبودية الشكل واحتفظ بأناقته الأسلوبية و تمكن في المقابل من إقامة علاقة تواصل مع مستويات مختلفة من الناس. سيما البسطاء منهم والذين عاشوا معه فقد كان فخورا بأصوله المتواضعه وسكنه في امبابة الى جوار البسطاء ومن بين هؤلاء اصطاد بطله الشهير “الشيخ حسني" والذي نال حضورا شعبيا بسبب فيلم “الكيت كات" فهذا الشيخ الضرير كان أحد جيرانه حتى إنه طلبا منه تعويضا عند نجاح الفيلم. عاش أصلان ومات مثل صياد ماهر لأكثر اللحظات حميمية وهي لحظات تستعصي علي الكتابة, لكنها تلين بين يديه لتتحول إلي" حياة من لحم ودم، فالبشر هم السر الحقيقي في كل ما أنجزه أصلان مؤمنا بأن الكتابة هي فن الحذف، فقد كان يقول “لا أحب أن أكتب ما يعرفه القارئ، فالأفضل دائما أن أحذف كل ما قد يتوقعه." منذ بداياته الأولي احتمي اصلان وموهبته وسعي إلي تنميتها بالقراءة لكنه لم يحرم نفسه من الاتصال بالبشر فهو ليس من مثقفي الكتب يعرف أن للمعرفة مكانا بين الناس. ويخيل لي كلما خالطته واقتربت منه أنه" جواهرجي بشر", هو ابن البلد" بالمعني الإيجابي للكلمة وبألف لام التعريف, يتعامل مع كل شخص علي" قد عقله" لا يفرط في الكلام مع من لا يطمئن إليهم. عندما أسترجع مسيرته أكتشف أن موهبته كانت مثل" الضوء" الذي من الصعب إنكار قدرته علي كسر قانون الظلام. لذلك لا تعجب إذا عرفت أن كتاب جيله هم أنفسهم من قرر الاحتفاء بموهبته مبكرا وتكريس عدد خاص عنه في مجلة" جاليري68" وهي مجلة طليعية كانت أقرب إلي مصنع مواهب لايزال إنتاجه يمثل فخر المخيلة الإبداعية المصرية. في هذه المجلة بدا لقراء الأدب أن الأدب لديه موعد مع كاتب له طريقته المميزة في الاختزال, يؤمن بأن الكتابة هي فن الحذف, وكثيرا ما قال لي أصلان" لا أحب أن أكتب ما يعرفه القارئ, فالأفضل دائما أن أحذف كل ما قد يتوقعه". هذا الدرس تعلمه أصلان من كاتبه المفضل الأمريكي أرنست هيمنجواي الذي يحلو له أن يعود لقراءته من وقت لآخر أو الكتابة عنه, وقد التفتت دراسات أكاديمية عنه إلي هذا التأثير ومنها دراسة مقدمة بالإنجليزية بجامعة عين شمس للباحث. شكري عبد المنعم محمد حول تأثير همنجواي في القصة المصرية القصيرة" إبراهيم أصلان وبهاء طاهر نموذجا", لكن المصدر الثاني الذي علم أصلان فنون الاقتصاد اللغوي هو" أدب يحيي حقي" الذي مكنه من إدراك درس آخر يتعلق ب" النحت في اللغة" والبحث عن مصادر أخري للإلهام في الكتابة لا تتصل بالأدب مباشرة, فعندما يواجه الكاتب مشكلة في البناء الفني ربما يجد لها حلا في فن آخر" هكذا تعلم أصلان من حقي وأخذ يعلم نفسه بنفسه الكثير من المهارات, فهو من" عشاق الأيدي الذكية" كما قال لي وهو يقصد" الأيدي التي تنشغل بابتكار شيء" لكن الدرس الأهم والأعمق الذي تلقاه أصلان من قراءة حقي تتعلق بالحاجة إلي إيمان بتجاور الفنون والأنواع الأدبية لذلك تندهش وأنت في حضرة أصلان من حديثه عن السينما واتجاهات مخرجيها كأنه ناقد سينمائي محترف أو من ذائقته الرفيعة في الفن التشكيلي, كان مهووسا باكتشاف الأعمال الأدبية والفنية التي تمكن أصحابها من ابتكار حلول لمشكلات التعبير الفني" أذكر مرة أنني قرأت كتابا جميلا للمخرج أندريه تاركوفسكي يتضمن تأملاته تحت عنوان" النحت في الزمن", وحين اتصلت بأصلان أخبره عما وجدته في الكتاب من إجابات عن أسئلة تشغله وجدته يفاجئني بمقال كتبه عن نفس الكتاب ونشرته صحيفة" الأهرام". بدأ الكاتب الراحل منذ فترة مبكرة من حياته تعليم نفسه بنفسه, فهو لم يتلق تعليما نظاميا لظروف أسرية وبدأ في العمل في هيئة المواصلات السلكية واللاسلكية, هناك التقي أصدقاء وزملاء عمل نقلوا موهبته التي كانت في طور النمو لمرحلة أخري, يسميها ماريو فرجاس يوسا مرحلة" تحويل الموهبة من ميل أدبي إلي احتراف" وفي هذا المناخ الذي يعود إلي أوائل ستينيات القرن الماضي كتب أصلان قصصه الأولي الموجودة في" يوسف والرداء"“ وبحيرة المساء" لكن خبرته في تجربة العمل في البريد تجد لها أصداء حاضرة في روايته القصيرة البديعة" وردية ليل", وفي كتابه العصي علي التصنيف" خلوة الغلبان" ففي الكتابين الكثير من أطياف هذه التجربة الإنسانية التي مكنته من تطويع لغته وأخذها باتجاه" الاقتصاد" لتكون لغة عارية من الزخارف البلاغية. عندما انتدب أصلان من هيئة البريد إلي المواصلات اللاسلكية مع مطلع الستينيات وجدت نفسه في مكان الكلام فيه بفلوس لاتوجد كلمة واحدة هنا من دون ثمن مدفوع وفي آخر النهار هناك إحصاء عام لكل الكلمات وهذا أمر قد يتجاوب فورا مع رغبتك في عدم الكلام وسوف يعزز إيمانك بأن للصمت فضيلة ولو واحدة". وفي الكاونتر الخاص بهذا المبني التقي أصلان بعملاء ممن يريدون إرسال برقياتهم إلي خارج البلاد, إنهم يتباينون في كل شيء إلا أنهم يتحولون جميعا أمام الشباك, بمن فيهم الأمي, إلي عباقرة في فن صياغة الكلمات واختصارها, كل كلمة مرسلة إلي الخارج بمبلغ والبرقية علي بعضها مكلفة جدا, وهم يريدون أن يرسلوا أكبر قدر ممكن من المعلومات, في أقل عدد ممكن من الكلمات". لكن الخبرة اليومية ذاتها عاد أصلان وكتبها في الأهرام وتوقف أمام شخوصها المؤثرين ومنهم الناقد محيي الدين محمد الذي كان يكتب أيامها في مجلة “الآداب" البيروتية المؤثرة في ذلك الوقت قضي أصلان نحو خمسة عشر عاما يعمل في وردية الليل بهيئة المواصلات اللاسلكية علي حد وصفه يطل من الطابق الرابع علي شارع رمسيس من هذه الناحية, وعلي شارع الجلاء من الناحية الأخري, كنت أعرف من لا ينامون مثلي من نوافذهم المضيئة المتناثرة في البنايات البعيدة, أقمت علاقات مع بعضهم, وعرفت مع السنين أن بعض النوافذ إذا أظلمت فإنها إجازة يقضيها صاحبها في مصيف أو آخر. كتب أصلان عما يمكن تسميته بسنوات التكوين وقتها كان مندفعا إلي الاطلاع علي أعمال الكبار من المفكرين والكتاب قفزا علي من هم دونهم, تعرف وقتها على ( دستويفسكي) والأجزاء الخمسة الأولي من( قصة الحضارة) ل( ديورانت) من خلال صديقه محيي. وفي هذا المناخ الحميم وجد أصلان من ينتصر لموهبته وينجو بها من مستنقع الوظيفة البيروقراطية, وربما يكون الكاتب الوحيد الذي زكاه نجيب محفوظ وكتب من أجله رسالة لإدارة التفرغ التابعة لوزارة الثقافة ليضمن تفرغه للأدب, واللافت للنظر أن الراحل ظل محتفظا بتلك الرسالة التي يعتبرها" شهادة بحق موهبته" ففيها أكد محفوظ أن أصلان" فنان نابه, مؤلفاته تقطع بموهبة فريدة وفذة, ومستقبل فريد, ولمثله كما يقول محفوظ, نشأ مشروع التفرغ وعند أمثاله يثمر ويزدهر, وإلي جانب شهادة محفوظ نال أصلان شهادة أخري من ناقدة كبيرة مثل لطيفة الزيات والتي علي الرغم من انحيازها اليساري لم تجد غضاضة في مساندة مشروع كاتب كانت له طوال الوقت انحيازات جمالية مغايرة لخط الواقعية الاشتراكية التقليدي الذي كان عنوانا لتلك السنوات. الطريف أن أصلان بفضل هذه المنحة أضطر لكتابة الرواية وقال لي حين سألته عن تلك التجربة :" أنت تعرف أن نجيب محفوظ كان مهتما بالقصص القصيرة التي أنشرها, حتي لاحظ تغيبي عن لقاءات الجمعة, وعرف أن ذلك بسبب عملي في هيئة المواصلات السلكية واللاسلكية, قسم البرقيات الخارجية, إذ كنت أشتغل وردية ليل, فسارع إلي كتابة تزكية كي أحصل علي منحة سنة تفرغ, كما كتبت لطيفة الزيات وصلاح عبد الصبور, وحصلت علي منحة تفرغ سنة قابلة للتمديد, وبدأت تظهر الأخبار في الصحف, أن إبراهيم أصلان حصل علي منحة تفرغ كي يكتب رواية, فنفيت الخبر مؤكدا أنني كاتب قصة قصيرة, لكن اتضح لي أنه لا يوجد تفرغ للقصة القصيرة, وأن التفرغ يعني أن تكتب رواية أو مسرحية أو بحثا طويلا, فقلت: ما دام حصلت علي التفرغ فلا توجد مشكلة, سوف أكتب رواية. ولأنني لست روائيا, أو بالأحري كتبت الرواية مصادفة, أردت أن أسميه كتابا. وهذا ما آخذه في اعتباري, كتاب لا ينتسب لملامح روائية ثابتة وشائعة ومعروفة من البشر إلي الأماكن حيث تحتل إمبابة والكيت كات بالذات المكان المركزي في كتابة أصلان الذي يقول لا يمكنني الكتابة دون الإحساس بجغرافية المكان وإن لم أذكره لذلك كتب في استهلال كتابه “ شئ من هذا القبيل" الذي يروي حكايات عن تجربته في الحياة في المقطم وهي تجربة بدأها منذ ما يقرب من خمس سنوات:" أنزع الآن عن إمبابة كما تنزع قطعة لحاء جافة, وإن كانت حية عن جذعها الطري, كما تلتصق بجذع آخر". شقة أصلان القديمة لاتزال في إمبابة وهناك ترك المكتبة التي تبدو مثل مسمار جحا التي تتيح له العودة إلي المكان كلما أراد. المؤكد الآن أن أصلان بما كتبه خصوصا في مالك الحزين, وعصافير النيل وحكايات شارع فضل الله عثمان خلد منطقة إمبابة بجميع تفاصيلها الحميمية, ثم جاء فيلم داود عبد السيد الرائع" الكيت كيت" المأخوذ عن" مالك الحزين" ليعطي لهذا التاريخ طابع الوثيقة المرئية التي تقاوم بحضورها تغييرات الزمن ويضيف لكتابة أصلان بعدا جماليا آخر دائما ما يسعي إليه وهو" الكتابة البصرية" فهو إذا كان يتعامل مع اللغة أساسا إلا أن ذاكرته في الأساس بصرية, ففي حوار أخير له يقول:" خناقتي" مع الكتابة, أني أسعي نقيضا لفعل القراءة, لا أريدك أن تشعر أنك تقرأ, أسعي إلي أن أجعلك تري, وتسمع, وتشم.. أسعي إلي تحويل المشهد إلي مشهد مرئي, وهذا سر أصلان الذي لا يمكن كشفه“.