د.سعيد اللاوندي كنت أعتقد بأن هناك علاقة غزو ثقافي بين مصر والعالم العربي، سيمّا في فترة معينة، وعندما طرحت السؤال ذات يوم على المفكر الجزائري المعروف محمد أركون أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في جامعة السوربون بباريس نفى هذه العلاقة جملة وتفصيلا، وقال" :إذا كان لابد من توصيف لهذه العلاقة فيمكن أن نسميها مدًا وليس غزوًا كأن نقول مثلا: (ماهي ملامح المد الثقافي للعالم العربى)؟ ومما أذكره أن الرجل أكد أن علاقة المد قائمة وموجودة في السينما والشعر والكتاب والثقافة يشكل عام،" فمثلا عندما اهتممت ب"طه حسين" لم يكن ذلك من قبيل الغزو، وإنما من قبيل اختيار الصواب، ثم إن "طه حسين" هو عميد الأدب العربى وليس عميدًا للأدب المصري، كما أن أحمد شوقي ليس أمير شعراء مصر، وانما أمير شعراء العرب، فالكلام إذن عن غزو ثقافي مصري للعالم العربى لا معنى له ". وما لا يعرفه الكثيرون أن أركون درس في الأزهر الشريف وينتمي إلى مدرسة الإصلاح الشهيرة المرتبطة باسم الإمام محمد عبده. وذات يوم لمعت فكرة تأسيس الفكر العربي وإصلاحه من خلال مائة شخصية دعاها أمين عام جامعة الدول العربية كان محمد أركون من بينها، ودارت مناقشات داخل الجامعة لكنها انتهت، ومما قاله أركون: "إن التراث الإسلامى هو الركيزة الأساسية لأي فكرة إصلاح، فالاهتمام باللغه العربية والحضارة الإسلامية هو ركيزة أي إصلاح في العالم الإسلامي. وفي منزله بباريس كنت أشعر بدفء التراث الإسلامي التي تملأ كتبه جدران منزله الذي كانت مكتبته عامرة بكل غال ونفيس، وكان يرى أن الحديث عن الحركة الإصلاحية ل"محمد عبده" هو شرط الحداثة، لكن لابد أن يكون هناك جديدًا، وكان يؤمن بأن "محمد عبده" وربما "سلامة موسى" ناهيك عن العقاد و"طه حسين".. أوراقهم المجهولة تضم كل جديد، المهم أن نبحث وننقب فيها. وعندما ذهبتً الى باريس في بداية ثمانينات القرن الماضى كان أركون ملء السمع والبصر في جامعة السوربون 4، لكن كان الدارسون العرب القدامى ينصحوننا بالابتعاد عنه أكاديميا لأنه من وجهة نظر البعض صعبا وقاسيا للغاية. والحق يُقال أن الرجل لم يكن صعبا لكن كان يهتم بالمناهج العلمية والبحثية، ويطلب من الطالب أن يبحث في كل الديانات وصولا الى بُغيته في البحث العلمى، وأذكر أنه أمضى حياته العلمية محاضرا في جامعات العالم الاسلامى وكثيرا ما ذهب الى الصين والهند وماليزيا وإفريقيا السمراء، وكثيرا ما كان يتعذر اللقاء به بسبب هذه الأسفار البعيدة، وكان يؤمن بأن لديه شيئا يريد أن يقوله فكان يذهب الى أقاصى الدنيا وأدناها ليشرح كلمة أو مفهومًا، ويرى أن هذه الرسالة لا يجب أن يتقاعص عن أدائها. وكان يرى ما سبق أن قاله لى الأديب المغربى الطاهر بن جلون وهو أن مصر محطة لابد من الذهاب اليها أو الاتيان بها في المغرب! ولذلك كان حريصا على أن يأتى الى مصر بين فترة وأخرى، وتربطه بالأزهريين علاقة طيبة، وأذكر أنه في احدى المرات طلب الىّ أن أصحبه في منطقة الأزهر الشريف، كنا في حوالى منتصف الليل.. لكن الزحام منعه من التجوال في هذه المنطقة التى تحمل ذكرياته عندمات كان شابا يافعا، وأذكر أن هذه المناطق كانت تحتل في قلبه مكانة لا تدانيها أخرى. كان يسكن في أخريات أيامه في شارع المعبد الشهير الذى يصل بين ميدان الجمهورية وشارع باريس المعروف، ولم يكن مفتونا بالملابس الغالية وانما بالكتب النفيسة. والشيء اللافت في حياته أنه كان جزائريا (قبائليا )ومتزوج من مغربية ويعمل ويعيش في باريس وطلب أن يٌدفن في المغرب، بمعنى أنه لم يكن يشعر الا بكونه عربيا مسلما، فكل بلاد العرب والاسلام بلاده وتولى مسئولية الدراسات العربية والاسلامية بجامعة السوربون بعد الكاتب والمفكر المصرى بول بالطا ابن خالة المفكر المصرى الراحل أنور عبد الملك الذى أمضى في باريس ردحا من الزمن وعاد لُيدفن في ثرى مصر. وكان أركون متفائلا شديد التفاؤل بمستقبل العالم الاسلامى وربطته علاقة صداقة قوية بمترجمه الكاتب السورى هاشم صالح، وكان يرتاح لترجمته من دون الآخرين، ولذلك نجد أن معظم انتاجه الفكرى من ترجمة هاشم صالح، ومن عجب أنه ترك باريس وذهب واستوطن المغرب بعد عاشت بلاده سوريا أزمات وحروب لا تنتهي! وكان أركون يريد أن يصل الى مصر بترجماته العربية ويرى أن الشعب المصرى هو نصف العالم العربى وربما أكثر، ويحز في نفسه أن يظل نكرة ولا يعرفه أحد في مصر المحروسة رغم أنه درس فيها بعض الوقت -كما ذكر لى - ويرى أن النهضة للعالم الاسلامى سوف تنبع من مصر ان آجلا أو عاجلا. وكان يطرب عندما أنشر حواراته معى في احدى الجرائد المصرية، وأذكر أنه نزل ضيفا على التلفزيون المصرى فتركوا له الوقت بلا حدود،والمشكلة أن أحدا في مصر لم يكن يعرفه بالشكل الصحيح، ولابد أن نقف بإمتنان واحترام بالغين للسيدة زوجته التى تعاونت مع ادارة بلدية باريس وافتتحت مكتبة محمد أركون بجوار السوربون في حى ري موفتار، يتردد عليها الدارسون الفرنسيون والعرب ممن يهتمون بالفكر العربى والإسلامى أكاديميا، سيمّا في فترة الأخلاق عند مسكويه التى تخصص فيها أركون وأعد فيها رسالة الدكتوراه، لقد تداركت جامعة القاهرة هذا الاهمال في حق أركون، واهتمت مؤخرا بالفكر التربوى عند الرجل وفتحت مجال البحث في فكر أركون الموسوعى فضاقت بذلك الهوة التى كانت تفصل بين المغرب العربى والشرق الأوسط بفضل العمل الأكاديمى لجامعة القاهرة التى كان يعتز بها أركون ويُفاخر الفرنسيين بأن معظم طلبته جاءت اليه من هذه الجامعة. ومن الأشياء ذات الدلالة أنه كان يكره جماعة الأخوان، ويحملهم كل المصائب والنوائب التى نزلت بالعالم الاسلامى وكان يحترم الرئيس الجزائرى هوارى بومدين لكنه لم يكن يغفر له أنه ترك الشيخ المصرى محمد الغزالى عبر التلفاز الجزائرى يمسح عقول أهل الجزائر، فملأ عقول الكثيرين-من وجهة نظر أركون - بالجمود الفكرى وكان ذلك ارهاصا لفكر اخوانى متعصب. أمضى أركون حياته الفكر الليبرالى ويرى أنه لا منقذ لنا سوى العقل الاسلامى لذلك كرس جهده لنقده.