السؤال الذي أتوقع أن يوجه لي وأنا أتحدث عن محمد أركون هو: ومن يكون محمد أركون؟! وهذا أمر يدعو للأسف الشديد, فالرجل الذي كنا في أشد الحاجة لأن نعرفه رحل عن العالم كله قبل أن نعرفه . وأنا لا أتحدث الآن عن معرفة شخصية, فالمعرفة الشخصية لا تهم إلا دائرة محدودة من الناس, وانما أتحدث عن معرفة فكره. وقد يري البعض أن رحيل المفكر لا يمنع الناس من التعرف علي أفكاره, ومادمنا نتحدث عن حاجتنا لمعرفة فكر أركون وليس لمعرفة شخصه فباستطاعتنا دائما أن نتصل بهذا الفكر وأن ننتفع به طالما كانت له هذه القيمة التي نشعر بالأسف لأننا لم نتعرف عليها في حياة صاحبها. وهذا حق لاشك فيه, لكن حاجتنا لمعرفة فكر محمد أركون ليست حاجة ثقافية خالصة نحصلها بالقراءة كما نفعل مع أي كاتب أو مفكر لا تربطنا به صلة خاصة, فنحن بالنسبة لمحمد أركون لسنا مجرد قراء نسعي لمعرفة الجديد الذي يقدمه في مجال تخصصه, وانما نحن هذا المجال نفسه, أو نحن موضوعه الذي أوقف عليه حياته, وجاهد ليله ونهاره ليعرفه, ويعرف به, ويعالج مشكلاته, ويسهم في حلها. محمد أركون ليس مجرد باحث هاو, أو أستاذ جامعي محترف, وانما هو مفكر مهموم, صاحب قضية, وقضيته هي الفكر العربي الإسلامي الذي توقف عن الحركة والنمو والتطور منذ قرون عدة, وكف عن مراجعة نفسه ومساعدة أهله, وانزوي في ركن من أركان ماضيه, وانفصل عن التاريخ فلم يعد له حضور ايجابي فاعل لا في حياة البشر عامة, ولا في حياتنا نحن بالذات, وانما هو استرجاع لما قدمه السابقون لا يحل مشكلة ولا يجيب عن سؤال جوهري, فإذا كنا بهذا الفكر عاجزين عن أن نحيا في العصور الحديثة حياة ايجابية, فنحن مضطرون لأن نعيش خارجها وخارج التاريخ كله, بعضنا يتزيي بأزياء الحداثة وألوانها ويستهلك ما ينتجه صناعها ولا يشارك هو في انتاجه, وأكثر نا يلوذ بالأجداد الراحلين يطوف بقبورهم, ويخب في جلابيبهم وعمائمهم ولحاهم, ويأكل من فتات موائدهم, ولا يكلف نفسه أن يراجع في تراثهم شيئا, أو يقدم تفسيرا جديدا أو تأويلا نافعا, وربما تجاوز هذا الحد فشوه تراث الإسلام, وانتقص منه, واستخدمه في ترويج أوهامه وتحقيق مآربه, كما يفعل دعاة الإسلام السياسي الذين وصموا ديننا بالعنف والتطرف, وتسببوا في عزلنا عن العالم, وإيغار الصدور ضدنا, وإثارة الريبة فينا. هذا هو فكرنا الديني الراهن, وهذا هو الواقع الذي نعيش فيه, والمشكلات والتحديات التي نواجهها ويواجهها معنا محمد أركون, ويشقي بها كما نشقي بها, ونحن لا ندري عنه شيئا. نستطيع بالطبع أن نقرأ له ونقرأ عنه ونتعرف عليه بعد موته والفضل لعدد من المترجمين الأوفياء في مقدمتهم هاشم صالح, لكننا لن نستطيع الآن أن ندخل معه في حوار حي يساعده في توضيح أفكاره, ويساعدنا في تمثل هذه الأفكار التي رأي فيها محمد أركون ما لم نره, وكشف عما لم يتح لنا من قبل أن نكشف عنه, فقد عاش في ظروف تختلف عن ظروفنا فتحت له مجالا أوسع, وزودته بأسلحة أمضي. ولقد أتيح لي أن أعرف محمد أركون عن قرب حين زاملته في قسم الدراسات العربية في جامعة باريس الثامنة فانسن التي اشتغلت فيها بتدريس الأدب العربي بين أواسط السبعينيات من القرن الماضي الي العام التسعين, ثم عملت الي جانبه في قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة باريس الثالثة السوربون الجديدة الذي انتقل للعمل فيه بعد أن اتفقت الجامعتان علي توحيد نشاطهما في مجال الدراسات العربية. وأركون فرنسي جزائري مثله مثل الصديق العزيز جمال الدين بن الشيخ أستاذ الأدب العربي ورئيس القسم في جامعة فانسن, وفي تقديري أن مولده كان في أواخر العشرينيات أو أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي, مثله مثل ابن الشيخ أيضا, ومعني هذا أنه شب ونضج في تلك السنوات العاصفة الملتهبة التي عرفتها الجزائر, وعرفتها فرنسا, وعرفها العالم كله, صعود الفاشية والنازية, والحرب العالمية الثانية والاحتلال الألماني لفرنسا, وظهور المعسكر الاشتراكي, وقيام إسرائيل, وتشنجات العالم العربي, وثورة الجزائريين وحصولهم علي الاستقلال, ألا يكون السؤال الجوهري الذي طرح نفسه علي أركون خلال الأربعينيات والخمسينيات هو سؤال الهوية؟, من أنت يا محمد أركون؟ ما لغتك؟ وما ثقافتك؟ ولأي أمة تنتمي؟ ولأي ماض؟ وأي مستقبل تختار؟ أنت جزائري أم فرنسي؟ عربي أو قبائلي؟ وما موقفك من العقل؟ وما موقفك من الدين؟ وقد اختار محمد أركون أن يحتفظ بالجنسية الفرنسية التي ولد بها لأنه ولد في الجزائر التي كانت جزءا من فرنسا, لكن دون أن يتخلي عن انتمائه للجزائر وللتراث العربي الإسلامي بشكل عام, وبقدر ما اجتهد أركون في امتلاك اللغة الفرنسية وتراثها الأدبي والفلسفي اجتهد في امتلاك العربية وتراثها الأدبي والفلسفي, وأشهد أن عربيته الفصحي كانت من القوة والأصالة بحيث تتيح له أن يؤدي كل ما يطلب من الباحث الدارس والمحاضر الأستاذ أن يؤديه بكل كفاءة. هكذا تمكن محمد أركون من تخصصه, واستطاع أن يستثمر وضعه الخاص في تقديم أعمال انفرد بتقديمها في مجال الفكر العربي الإسلامي. لقد امتلك أدوات المستشرقين ومناهجهم الدقيقة في البحث, لكنه لم يكن مستشرقا, فليست هناك مسافة تفصله عن موضوعه أو تجعله متعاليا أو متحاملا أو محايدا. انه ينتمي لموضوعه وهو الفكر العربي الإسلامي, لكنه يعالجه بحرية لا يملكها زميله الذي يعيش في البلاد العربية ويعمل في مناخ من التحريم والتسليم والمنع والمصادرة. ثم انه يستخدم في دراساته الأدوات التي يستخدمها الباحث الأوروبي في مقاربة موضوعه ومراجعة نفسه ونقد تاريخه, وهو إذن يقف في مركز الدائرة, في النقطة الذهبية التي يتسع فيها مجال الرؤية وتكتمل فيها الأدوات. وسوف نواصل في الأسبوع المقبل هذا الحديث