يوافق السادس عشر من شهر سبتمبر القادم الذكري السنوية الأولي علي رحيل المفكر الجزائري محمد أركون.. ومحمد أركون (1928 - 2010) اسم كبير في الفكرا لعربي، لم يصدر له سوي عدد ضئيل من الكتب، ولكنها كانت كافية لكي يصبح هذا المفكر القادم من إحدي القري الصغيرة في شمال شرق الجزائر علما من أعلام الثقافة الإنسانية المعاصرة، بما طرحه في هذه الكتب من نقد للتراث العربي الإسلامي. ومن أفكار ورؤي النهضة الحديثة التي كانت همه الأول وغايته، لا يستطيع من يطلع عليها أن يهون من عمق معرفته بالتراث الإنساني كله، قديمه وحديثه، ليس فقط من النصوص والمجلدات، وإنما من الواقع أيضا، أو من الإطارين الاجتماعي والتاريخي اللذين تمثلا في مناظرات العلماء والفقهاء، في القرون الهجرية الأولي وما بعدها. ومن الواضح أن محمد أركون كان يعرف جيدا وزن ما يقدمه، وما يقدمه نظراؤه من المفكرين المعاصرين في الغرب، مثل ريجيس بلاشير وفردينان دي سوسير، كما كان يعرف جيدا ذخائر التراث العربي لأبي حيان التوحيدي وأبي العلاء المعري وابن رشد وابن سينا والفارابي وابن حزم وغيرهم. وعلي نفس هذا المستوي من معرفة التراث كانت معرفته بتاريخ الجزائر الذي تميز شعبه بالتسامح. وبهذه المعرفة العميقة بالتراث والتاريخ وضع محمد أركون يده علي وجوه التشابه بين مباركة الكنيسة في المسيحية للملك، ومبايعة رجال الدين الإسلامي للخليفة الذي يقوم بإمامة المسلمين في المساجد، ومنح كل منهما للملك في الغرب والخليفة في الشرق الشرعية التي لا معدي عنها للحكم. غير أن تعامل محمد أركون مع التراث العربي الإسلامي اختلف عن تناول المستشرقين الذين ينظرون إلي هذا التراث كآثار جامدة، مثلما اختلف عن الباحثين الإسلاميين الذي لا يخرجون علي السلف في تقديس التراث. وبدلا مما قدمه كل من المستشرقين والباحثين الإسلاميين، قدم محمد أركون نظرية ومنهجا مختلفا، ينبع فيه الفكر والإنتاج من شروطه التاريخية، ولا يتنافر فيه هذا الفكر أو هذه الفلسفة مع الدين، أو يتنافر المجرد مع المتعين، وذلك باستبعاد الصيغ والأحكام النهائية القاطعة التي تحول دون المناقشة أو إعادة النظر، إذا احتملتها من الأساس. وبناء عليه فإن كل التفسيرات التي تفيض بها الكتب القديمة، في نظر محمد أركون، بما فيها الإجماع، قد تكون صحيحة أو صالحة في زمانها، إلا أنها بالحتم لا تصلح لكل الأزمنة، وإلا قيد الماضي الحاضر بأوتاده، وصادر كل ما خالفه، وتحول إلي تابو لا يتغير ولا يمس. وكما لم يحفل محمد أركون بعدم شهرته في العالم العربي، بسبب اللغة الأجنبية التي يكتب به، لم يحفل أيضا بوجوده داخل أسوار الجامعة، بعيدا عن الحركة الفكرية خارج الجامعة، التي تتألق فيها أسماء عربية عديدة من جيله، تطرح مشروعها الفكري باللغة العربية، الذي تدافع فيه عن الحرية والعقلانية والعلمانية والتحديث، وهي نفس الأفكار التي يدافع عنها محمد أركون، وإن لم يحقق لاسمها مثلهم الشهرة التي يتمتعون بها في الوطن العربي. ولولا ظهور محمد أركون في بعض البرامج التليفزيونية، والتفاف عدد من النقاد والصحفيين إليه في المؤتمرات والملتقيات التي يشارك فيها، لانحصر اسمه في الدائرة التي عاش فيها في فرنسا، في جامعة باريس ثم جامعة السوربون. ولكن إذا كان محمد أركون لم يجد القاعدة العريضة من القراء التي تتلقف كتبه من المطابع، فقد وجد بين طلابه في الجامعتين الفرنسيتين اللتين تعدان مع الكوليج دي فرانس من مؤسسات التنوير الأوروبي في العصر الحديث ما يعوضه عن غياب هذه القاعدة العريضة من القراء. ومما يذكر عنه أنه كان يشترط علي طلابه في الدراسات العليا أن يتقنوا اللغة العربية، ويضع هذا الشرط في مستوي شرط إتقان المنهج العلمي. وكان محمد أركون يفرق في صدد المنهج بين الفن والعلم، أو بين القصص والتاريخ. وخوف محمد أركون من الاقتصار علي التراث المكتوب فقط يعود إلي يقينه بأن هذا التراث تراث مغلق علي ذاته، يخضع للسلطتين المستبدتين التي ينتمي إليها، الدينية والعسكرية، ولا يتجاوزهما. أما التراث الشفاهي، ويعني به الثقافة الشعبية للمهمشين وغمار الناس، فقد كانت بعيدة عن هذه السلطة، وتملك من حرية التعبير وحيويته ما لا يتوفر لأصحاب التراث المكتوب، ومن ثم فهو - التراث الشفاهي - أدل علي المكونات والعقائد في بعدها الاجتماعي والتاريخي الذي انبثقت منه. ورغم سلامة هذه الرؤية، فقد أخذ علي أركون أنه أغفل، في هذه الدراسات، القوي الاجتماعية المختلفة، والصراع الطبقي، أو علي الأقل، كان بمنأي عنهما، كما أخذ عليه دعوته إلي إحلال التواصل الفكري مع القوي الفرنسية الاستعمارية والمهيمنة محل مقاومتها وقتالها. وهناك من أخذ عليه أيضا عدم قدرته علي التخلص، في هذه الدراسات، من تأثيرات الظروف المعاصرة التي تحد من تأويلات النصوص القديمة. وبسبب هذه المآخذ وغيرها ثارت الحروب ضده من كل الأطياف، في الجزائر وخارجها، في حياته وبعد رحيله، خاصة من جانب الأصوليين الجزائريين، أصحاب اليقين المطلق، الذين ينظرون بعيون الماضي الغابر، عبدة النص والحرف الذين يرفضون الآخر، ويقفون بالمرصاد للمثقفين، ولا يعرفون شيئا عن ثقافات المجتمعات الأخري، وعلي رأسهم «الحركة الإسلامية» في بلاده، وقد تنبأ محمد أركون بزوال هذا التيار بأسره نتيجة موقفه الجامد. ولأنه لم يفرق بين شرق وغرب، لم يتحرج محمد أركون من حمل الجنسية الفرنسية مع الجنسية الجزائرية، ولا أن يكون إتقانه للفرنسية أعلي من إتقانه للغته القومية. ولا شك أن تمسك أركون بالجنسية الفرنسية مع الجزائرية - بعد استقلال الجزائر - له أسبابه الموضوعية المتمثلة في المناخ غير الحر الذي كانت ترسف فيه بلاده. ولم يكن محمد أركون يجد أيضا حرجا في إعادة النظر في بعض مؤلفاته المنشورة، وتعديل مادتها وصياغتها. وجملة القول عن هذا المفكر الكبير إنه أراد بتعمقه في دراسة التراث العربي الإسلامي أن يحرر الفكر العربي الحديث من قيوده، من أجل أن يستأنف هذا الفكر مسيرته التاريخية التي توقفت في رأيه منذ القرن الثالث عشر، وبإمكانه أن يتحرك ويتقدم باستخدام العقل لا النقل، وبالتجديد لا التقليد. بقيت كلمة عن علاقة محمد أركون بمصر.. لقد عرفها جيدا كما عرفها عدد كبير من الكتاب والمفكرين من أنحاء العالم العربي، وتجول في شوارعها وأحيائها الشعبية، وتعامل مع باعة الكتب القديمة في الأزهر والسيدة زينب وسور الأزبكية، وظل يحمل لمصر وأهلها أجمل الانطباعات.