لعل التاريخ الباكستاني لم يشهد من أدمن التزحلق على اللعبة السياسية صعودا وهبوطا مثلما أدمنها رئيس الوزراء المستقيل نواز شريف، ربما بصورة فاقت غريمته السياسية الراحلة بنيظير بوتو، ففي كل مرة يُنحى فيها شريف عن الحكم سواء بقرار من القضاء، أو بانقلاب من الجيش، يُصر الرجل الكشميري على أن يتشبث بظله في السلطة، فيطل عليها من جديد، فهل ينجح في العودة إليها بعد الرحيل الثالث؟ فما إن قررت المحكمة العليا الباكستانية أمس الجمعة، عدم أهلية رئيس الوزراء نواز شريف للبقاء في منصبه بعد تحقيق في أصول غير معلنة تمتلكها أسرته التي طالتها تهم الفساد وامتلاك شركات خارج البلاد بحسب تسريبات "أوراق بنما"، حتى سارع شريف بتقديم استقالته بهدوء شديد رغم تحفظاته الكبيرة بشأن طريقة إجراء المحاكمة التي أدت إلى عزله، وسط مخاوف من انزلاق البلاد إلى اضطراب سياسي بعد فترة من الهدوء النسبي في هذا البلد النووي المعروف بتقلباته السياسية وانقلاباته العسكرية. شكل قرار المحكمة بالأمس، ضربة موجعة لنواز وسائر أفراد "آل شريف"، فقد شمل القرار إحالة ولديه حسن وحسين وابنته مريم وصهره إسحق دار الذي يتقلد حقيبة المالية في وزارة شريف إلى مكتب المساءلة في قضايا الفساد، حيث سيُطلب من العائلة تقديم جوابا شافيا عن مصادر أصول ثرواتها الضخمة، خاصة بعد أن نشرت وثائق بنما عددا من المستندات التي تفيد امتلاك نجلى شريف وابنته لثلاثة شركات "أوف شور" مسجلة في جزر العذراء التي تعد وكرا للملاذات الآمنة لأموال قادة ومشاهير العالم. وفي الوقت الذي سيترأس فيه شريف اجتماعا لحزب الرابطة الإسلامي الحاكم لاختيار خليفته حتى موعد الانتخابات في 2018، يرى مراقبون أن مؤسسة القضاء قد استندت في حكمها ضد شريف على مباركة خفية من المؤسسة العسكرية، فالمحكمة لم تكن لتصدر قرارا بمثل هذا الحكم دون مباركة من الجيش، في بلد لطالما شكل فيه الجيش والأحزاب فرسي رهان في الصراع على السلطة. وذكرت وسائل الإعلام المحلية، أن الحزب الحاكم في باكستان يعتزم تعيين شهباز شريف شقيق رئيس الوزراء المخلوع خلفا له حتى الانتخابات العامة لعام 2018، بيد أنه قد يلجأ لتعيين وزير الدفاع آصف خواجة المُقرب من الجيش وشريف لمدة 45 يوما قبل تولي شهباز. وسيلزم انتخاب شهباز شريف "65 عاما"، الذي يتولى منصب رئيس وزراء مقاطعة البنجاب الشاسعة التي تضم أكثر من نصف عدد سكان باكستان البالغ عددهم 190 مليون نسمة موافقة الجمعية الوطنية قبل أن يتولى المنصب. ورغم أن قرار المحكمة لم يمنع مريم شريف من ممارسة العمل السياسي، إلا أنه جاء كارثيا لطموح ابنة نواز التي كانت تطمح في خلافة أبيها في الانتخابات البرلمانية عام 2018، فما كان منها إلا أن سجلت رفضها لقرار المحكمة قائلة: "اليوم تمت إقالة رئيس وزراء منتخب من الشعب"، مؤكدة أن والدها سيعود بشكل أقوى من السابق. واستطاع شريف في الماضي التغلب على خصومه في أصعب مراحل حياته، ونجا من فضائح سياسية واقتصادية عدة وبات ينظر إليه كأقوى رئيس وزراء في باكستان منذ استقلالها عام 1947، بفضل غالبية كبرى في البرلمان مكنته من تعديل الدستور واكتساب مزيد من السلطة. كان شريف قد تسلق السلم السياسي منذ بداية الثمانينات، فحظي بتأييد الجيش، ليصبح رئيس حكومة إقليم البنجاب أكثر أقاليم باكستان ازدحاماً بالسكان، قبل أن يخوض سباقه الانتخابي الأول نحو رئاسة الوزراء عام 1990 في ظل حكم الرئيس السابق غلام إسحق الذي أطاح بحكومة بنيظير بوتو. ترك شريف بصماته بانفتاح اقتصادي أفضى لخصخصة القطاع العام، ما أفضى إلى اتهامه من قبل المعارضة ببيع مشروعات الدولة بأسعار بخسة، وعزل باكستان دولياً في سعيه لتحقيق مصالحه الخاصة. أجبر شريف على الاستقالة في 1993 بعد معارك مع الرئيس خان والعسكر حول اتهامه بالمحسوبية والفساد، ومن جديد عاد شريف لصفوف المعارضة لإسقاط بوتو، وأثمرت جهوده عندما أقالها الرئيس الباكستاني فاروق ليجارى عام 1996. عاد شريف إلى الواجهة من جديد عام 1997، وحقق فوزا كاسحا في انتخابات عام 1997، مكنته عزل رئيس المحكمة العليا سجاد على شاه من منصبه، ومضى ذلك الداهية في تعزيز قبضته على السلطة، مستغلا الغالبية البرلمانية التي لم تتح لغيره من رؤساء وزراء باكستان من تجريد رئيس الجمهورية من سلطته في إقالة حكومة منتخبة. انفصلت عرى المودة التي أقامها شريف مع الجيش عام 1999، وأُجبر مرة ثانية على الاستقالة بعد انقلاب أبيض قاده وزير دفاعه برويز مشرف، فيما تم إبعاد شريف إلى السعودية ليقضي بها ثمانية سنوات قبل أن يعود إلى باكستان عام 2007، بعد أن أصدرت المحكمة الباكستانية العليا حكما ببراءته من تهم القتل والفساد. عقب انتخابه من قبل البرلمان الباكستاني في 4 يونيو 2013 بعد نيله 244 صوتًا في البرلمان وبذلك تولى رئاسة الوزراء للمرة الثالثة والأخيرة من 7 يونيو 2013م قبل أن يستقيل أمس فور صدور قرار المحكمة العليا، ليفشل أكثر رؤساء وزراء باكستان وصولا للمنصب في أن يكمل ولايته، وهو الأمر الذي لم يتحقق لأي رئيس لحكومة باكستان ولايته منذ استقلال البلاد عن الحكم الاستعماري البريطاني عام 1947. ولا يُدرى حتى الآن، ما المصير الذي سيحل بنواز شريف، ففي حين يرى البعض أنه سيمُد حبال السياسة ليسيرعليها من جديد، فلا شيء يُمكن توقعه مع رجل حُكم عليه من قبل بالسجن مدى الحياة، وانتخب وخُلع من المنصب ثلاث مرات، يرى آخرون أن الرجل الذي جاوز السابعة والستين من العمر سيقنع بمحاولة تبرئة ساحته هذه المرة من التهم ليسلم راية الطموح السياسي لجيل جديد من آل "شريف" . شهباز شريف المرشح لخلافة أخيه بنيظير بوتو برويز مشرق مريم نواز شريف