كلما عصفت تُهم الفساد بالحكومات الإسرائيلية التفتت أنظار رؤسائها صوب القدس، فمن قد يُنجى حكوماتهم من السقوط غير قضية العرب الأولى؟، وإن كلفهم هذا خوض حروب دينية طالما ألفها قادة إسرائيل منذ احتلالهم للأراضي العربية، وهو ما قد يبعث التساؤل حول توقيت تفجير الوضع حول باحات الأقصى الآن؟. تراجعت "القضية الفلسطينية" من الأجندات السياسية للعرب منذ أن اشتعلت الثورات بالمنطقة العربية قبل ست سنوات، فلكل دولة عربية شأنها الذي يُغنيها عن غيرها، وليس بوسع صُناع القرار بها سوى الحث على السلام والتنديد على استحياء بممارسات الاحتلال، وأمام هذا الأمر أودعت "عملية السلام" في قبو جليدي، عزز من برودتها الانقسام بين القوى والفصائل الفلسطينية، ما أتاح لإسرائيل المضي قُدما في تكريس "الاستيطان" وإثبات يهودية الدولة، والعمل في الخفاء على "تهويد القدس" . إذن فقد اجتمع الآن لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فرصة اصطياد عصفورين بحجر واحد، فتفجير الوضع بالأقصى يضمن له تخفيف الضغط على الحكومة الإسرائيلية المهددة بالسقوط، وإخفاء رائحة الفساد التي تحوم حوله، سواء تلك المتعلقة بإنفاق عائلته من المال الحكومي، أو صفقة "الغواصات الألمانية" بمئات الملايين من الدولارات، وفى نفس الوقت فإن نتنياهو يقصد عن عمد تطبيق سياسة إسرائيل القديمة المتجددة من خلال إشعال الأوضاع بالأقصى من آن لآخر ، فيجعلوا من القدس "بالون اختبار" لقياس مدى ردة الفعل العربي تجاه سياسات إسرائيل، وهو ما تم من قبل مع حريق المسجد الأقصى عام 1969، مرورا بانتفاضتي القدس الأولى والثانية، انتهاء بالعمليات العسكرية في قطاع غزة. وإذا ما تم النظر إلى مدى ارتباط فساد الحكومات الإسرائيلية بتصعيد الوضع في القدس، فإسرائيل لديها باع طويل في هذا الشأن فقد سبقت تجربة نتنياهو مع الفساد، وعلى رأسها تجربة رئيسي الوزراء السابقين، آرئيل شارون "2001- 2006"، وإيهود أولمرت" 2006- 2009"، فقد استغل شارون أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية إثر اقتحامه باحات المسجد الأقصى بصحبة مستوطنين ومتطرفين يهود، كي يدارى بها على اتهامات الفساد التي طالته ونجله جلعاد، وتتمحور هذه القضية بشأن الاشتباه بحصول شارون ونجله على رشوة مالية وسياسية، مقابل قيام شارون باستغلال منصبه ومساعدة المقاول الإسرائيلي، دافيد آبيل على شراء جزيرة يونانية لإقامة منتجع سياحي، وحالت إصابة شارون بالجلطة الدماغية في 2006 من مثوله أمام القضاء . أما خليفته إيهود أولمرت، الذي شهدت فترة رئاسته للحكومة الإسرائيلية حربين، أولاهما في لبنان مع حزب الله عام 2006، والأخرى كانت عملية"الرصاص المصبوب" في غزة عام 2008 ضد حركة حماس، وكان أولمرت يستغل تلك الحروب ليتخفى وراءها من تهم الفساد التي طالته تهمة الاحتيال وخيانة الأمانة، في فضيحة معروفة باسم "قضية هولي لاند"، حيث أدين بأخذ بأخذ الرِشا المتعلقة بمشروع الإسكان في القدسالمحتلة، حيث شغل حينئذ منصب رئيس بلدية، قبل أن يصبح رئيس وزراء إسرائيل، ومع انتهاء الحرب على غزة في 2009 قدم أولمرت استقالته للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز بعد انسحاب وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفنى من الائتلاف الحكومي، وصدر بحقه حكمان في عام 2014 ، و2015 بالسجن لمدة 6 سنوات ، خففت فيما بعد لعام ونصف، وما زال أولمرت يقضى فترة سجن ، ليكون بذلك أول رئيس للوزراء يدخل السجن . نتنياهو هو الآخر يبدو أنه اختار السير على منوال سابقيه، فلم تنتهي فضيحة اتهامه وزوجته سارة بتبديد أموال حكومية وصرفها على حياتهم الخاصة، وهى القضية المعروفة أمنيًا في تل أبيب ب"منازل نتنياهو"، حتى تردد اسم رئيس الوزراء في فساد يتعلق ب"صفقة الغواصات الألمانية"، حيث علقت الحكومة الألمانية صفقة لبيع ثلاث غواصات لإسرائيل بمبلغ 430 مليون يورو، وذلك بعد أن حامت شبهات الفساد حولها. وكانت جهات التحقيقات الإسرائيلية قد اكتشفت أن محامي نتنياهو الخاص، هو أيضا ممثل الوكيل المحلي لمجموعة تيسن كورب مارين سيستمز الألمانية، لبناء السفن المكلفة ببناء الغواصات، حيث تدور الشبهات حول ضلوع نتنياهو في هذا الأمر. وربما يكون لنتنياهو مغزى آخر لتفجير الوضع مع الفلسطينيين الآن بخلاف الاختباء من قضايا الفساد، فقد أراد أن يختبر ردة فعل الشارع العربي وحكوماته إزاء قضية "القدس"، فلربما تدلل ردة فعلهم المتواضعة للإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب أن الشعوب العربية لن تعارض كثيرا إذا ما تم نقل السفارة الأمريكية ، وهى الخطوة التي تسعى إسرائيل لتحقيقها، من أجل الاعتراف بسيطرتها على القدس الشرقية التي تنص جميع مبادرات السلام العربية والدولية على كونها عاصمة لتكوين دولة فلسطينية إلى جانب أخرى إسرائيلية إن تمت . ففى مؤتمر صحفى جمع نتنياهو بوزير الخارجية الأمريكى ريكس تيلرسون قبل شهرين، بدد رئيس الوزراء الإسرائيلى مخاوف الأمريكيين حيث زعم أن " نقل السفارة الأميركية إلى القدس لن يضر عملية السلام بل على العكس ستدفع الخطوة عملية السلام من خلال تصحيح خطأ تاريخي ومن خلال تحطيم خيال فلسطيني عن أن القدس ليست عاصمة لإسرائيل". كما أن هذه الخطوة من جانب حكومة نتنياهو تأتى للإسراع من وتيرة "تهويد القدس" وإثبات عبريتها، وهو ما تحاول إسرائيل أن تروج له فى كافة المحافل، ولا أدل على هذا من موقف وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميرى ريجيف بعد أن جعلت من مدينة القدس صورة مطبوعة على تنورة فستانها ، في أعقاب قرار اليونسكو اعتبار إسرائيل سلطة احتلال لمدينة القدس. إذن فقد تشابكت خيوط الفساد لدى نتنياهو مع محاولات التهويد للإفلات من شبح سقوط الحكومة التي بات انهيارها واقعًا ملموسًا كل يوم، لذا فقد أراد أن يلقى حجرًا صوب القدس متجاهلاً وقوع انتفاضة ثالثة للحجارة في أرجاء بيت المقدس .