ظلت "الموصل" على مدى القرون عصية على الغزاة، فقد قدر لها التاريخ أن تصل ما انقطع، وتجبر ما انكسر من تراث العروبة والإسلام، لتقاوم الإرهاب بكافة صوره وأشكاله، وليس أدل على ذلك، من أن تكون المدينة العربية الأولى التي قادت لواء المقاومة ضد الصليبيين، وتصبح المدينة الوحيدة الناجية من بطش التتار في بلاد ما بين النهرين، قبل أن يدمر الدواعش متحفها الأثري، ومسجدها النوري، صاحب المئذنة الحدباء، ليندحر تنظيمهم أخيرا كحال كل رامها بسوء من أعداء الحضارة والإنسانية. مظاهر القذف والقتل والترويع ل"دولة الدماء" تلك، لن تستطيع أن تمحو عن الموصل بسهولة ذلك التاريخ العظيم الذي تضرب جذوره بقوة في أعماق الحضارة الإنسانية، حيث ظهرت المدينة على الساحة التاريخية، منذ أن اتخذ منها الأكاديين عاصمة لملكهم قبل 2400 عام قبل الميلاد، حيث ظهر تاريخ المدينة على جدران المعابد والألواح التي أقامها الملك سيرجون الأول باللغة المسمارية في كنف الحضارة السومرية . آلت الموصل إثر ذلك، إلى سلطة الأشوريين الذين حكموا بلاد الفراتين، حيث بلغت الموصل ونينوى، أبهى درجات التحضر والرقى في كنف الملك الأشوري "آشور بانيبال الثاني" الذي حكم البلاد ما بين "883 - 859 ق.م." فقام الأخير بتوسيع المدينة عمرانياً، وشيد العديد من القصور والمعابد. أما الملك سنحاريب الأول، فقد أوصل المدينة إلى أوج مجدها حوالي 700 ق.م، فقام ببناء قصر ضخم مكون من 80 غرفة من الرخام والطوب، استعمل فيه أكثر من 160 مليون قطعة، وزين بتماثيل لثيران مجنحة بلغ وذن الواحد منها ما بين 9 إلى 27 طنًا، وقد قامت الأيدي السوداء للدواعش بتحطيم نماذج من هذه الثيران المجنحة خلال تدميرهم للمتحف الوطني بالموصل عام 2015. غير أن مدينة الموصل، قد نالت شهرة واسعة وأهمية إستراتيجية كبرى خلال العصور الإسلامية، فقد شهدت فصلا من فصول الصراع الدامي على حكم العالم الإسلامي بين الأمويين والعباسيين عام 132ه، بيد أنها لم تظفر بشهرة واسعة كتلك التي اكتسبتها في عهد دولة "بني حمدان" التى أقامها ناصر الدولة وأخيه سيف الدولة الحمداني في الموصل وحلب. وعلى مدى 30 عامًا، تمكن ناصر الدولة في الموصل، وأخيه سيف الدولة، من تسديد هجمات موجعة للإمبراطورية البيزنطية الشرقية، التي تتخذ من القسطنطينية عاصمة لها، عبر إماراتهم في الموصل وحلب، وأجاد شيخ شعراء العربية أبى الطيب المتنبي وصف معارك سيف الدولة ضد نقفور الثاني وخلدها في أشعاره، بما بات يعرف ب "السيفيات" . وبرغم ما حملته الحروب الصليبية من دمار وخراب للعالم الإسلامي، إلا أنها أشعلت نيران الجهاد المقدس ضد الصليبيين، وقد حملت الموصل شعلة هذه الجهاد، حين تولى إمارتها عماد الدين زنكي "521- 541" حيث حرر العديد من المدن العربية من قبضة الصليبيين، ولعل أبرزها إمارة الرها، واستمرت هذه المسيرة في عهد ولده نور الدين محمود "541 – 579" الذي اتخذ من حلب عاصمة لدولته النورية. وحين استرد نور الدين محمود سلطته على الموصل، بعد نزاع مع ابن أخيه سيف الدين غازي الثاني، بني المسجد الجامع الكبير بالموصل، ومئذنته الحدباء، وكان موضع المسجد "خرابة كبيرة" قد احتلت قسما كبيرا من الجانب الغربي بالموصل، وشاعت حولها الأساطير، بأن من يعمرها ذهب ملكه وانقضى عمره، فتصدى نور الدين لهذه الشائعة، واشترى تلك الأرض من ماله الخاص، وأوكل شيخه معين الدين عمر، بالإشراف على بناء المسجد، وقد استمر البناء نحو ثلاثة أعوام، أنفق خلالها نور الدين محمود نحو أربعمائة ألف دينار من الذهب الخالص، وهو مبلغ ضخم في تلك الآونة، وحين جاءوا بدفاتر الحساب الخاصة بتكلفة تشييد المسجد، ألقاها نور الدين في مياه دجلة، قائلا لشيخه معين الدين: "يا شيخ، عملنا هذا لله، فدع الحساب ليوم الحساب" . لقد أراد نور الدين محمود، أن يبعث رسالة من وراء بناء المسجد، مفادها أن الجهل والأساطير لا مكان لهما في تاريخ تلك الأمة لمقاومة أعدائها من الصليبيين آنذاك، وقد ذكر هذا في أول خطبة بعد تأسيس المسجد عام 568ه، وشتان بين تلك الخطبة لهذا السلطان المجاهد، الذي يعرف القيمة الحقيقية للدفاع عن الدين والوطن والعرض، وبين خطبة ذلك الدعي المأجور أبو بكر البغدادي، الذي أعلن بعد تسعمائة عام من فوق منبر نور الدين محمود، تأسيس "خلافة مزعومة" ودولة إرهابية للدواعش، تتخذ من الجهاد وراية الإسلام ستارا، لتمارس القتل والإرهاب وترتوي من دماء الأبرياء! . ومع بزوغ القرن السابع الهجري، تعرض العالم الإسلامي لأكبر هجمة وجودية تهدد حضارته بالزوال، حين شن التتار بزعامة جنكيز خان وحفيده هولاكو، أكبر الحملات العسكرية ضد العالم الإسلامي، هجمة انهار تحت وطأتها دول بحجم الدولة الخوارزمية في الهند، وبلاد ما وراء النهار، ودول السلاجقة في آسيا الصغرى، والخلافة العباسية في بغداد عام 656ه، والدويلات الأيوبية في الشام. وإزاء ذلك المد الهمجي الجارف، الذي لم يسلم من حجر ولا شجر ولا بشر، آثر أمير الموصل بدر الدين لؤلؤ، أن ينتظر ما سيسفر عنه حصار المغول لبغداد، وكانت آنذاك عاصمة الدنيا، ومقر الخلافة العباسية، التي تضمن الوحدة للعالم الإسلامي، فلما اقتحمها المغول، وقتلوا الخليفة المستعصم بالله، رأى أن يلاطف هولاكو، وسلم له المدينة دون قتال؛ كي تنجو من مصير مشابه لما لحق ببغداد. وفى العصر الحديث، باتت الموصل ثاني أكبر مدن العراق سكانا بعد بغداد، حيث يبلغ تعداد سكانها 2.5 مليون نسمة، وقد ظلت آثارها التاريخية التي نجت من بطش التتار عنصرا للجذب السياحي بالعراق، قبل أن تغدو فريسة للسرقة والنهب الممنهج في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق، في محاولة لطمس أية معالم تاريخية للمدينة العريقة. وقد مهد الانسحاب الأمريكي من شمال العراق، إلى نشاط حركات وجماعات إرهابية، خرجت من عباءة تنظيم القاعدة في العراق، بقيادة أبى مصعب الزرقاوى عام 2006، مستغلين تفكك الجيش العراقي، وفى أعقاب اندلاع الأزمة السورية، نجحت تلك الجماعات في توحيد صفوفها، وبلغ بها طموحها الدموي الأسود في تكوين دولة لهم في سورياوالعراق، تحت اسم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والذي يرمز له اختصارا باسم "داعش"، وسط اتهامات لواشنطن وعدة دول غربية بخلق مناخ مناسب أدى لأن يقوم ذلك التنظيم الإرهابي بإعلان خلافته رسميا في 29 يونيه عام 2014، بعد أن أقام مذبحة سبايكر الشنيعة بحق الآلاف من الجنود العراقيين، ليقف أبو بكر البغدادي على منبر المسجد النورى، ليعلن عن قيام "خلافة واحدة" بعاصمتين، الأولى فى الموصل العراقية، والثانية في الرقة السورية. وخلال إحكام سيطرة تلك الخلافة الدموية المزعومة، بات شائعا على أنظار العالم رؤية مظاهر الذبح، والتعذيب تحت دعوى "تطبيق الحدود"، ونُصبت أسواق بيع البشر تحت مسمى "الجواري" و"العبيد"، في محاولة لإلصاق كل تلك المظاهر للإسلام، وقد اعتادت عدة دول ومنصات إعلامية، على التحول من داعش بصفته تنظيما إرهابيا إلى مسمى "الدولة الإسلامية"، فى مظهر يوحى بأن كل تلك الممارسات لن تجدها إلا في تلك "الدولة الإسلامية". على مدى ثلاث سنوات، هدد التنظيم الإرهابي بتدمير "سد الموصل" أكبر سد مائي في العراق، والذي يبلغ طوله 3.2 كيلومتر، وارتفاعه 131 مترا، وقد ذهبت تقديرات الخبراء، إن انهيار السد سيخلف فيضانا بارتفاع 100 متر، ينتج عنه غمر مدينة الموصل بالكامل، فضلا عن مدن وادي دجلة، وقتل وتشريد ما يقرب من 10 ملايين نسمة من سكان مدينة الموصل، وما حولها من قرى ومدن. أقدم تنظيم داعش الإرهابي في 26 فبراير عام 2015، بتحطيم محتويات المتحف، وذلك ضمن الحملة المنظمة التي قام بها التنظيم لهدم معالم تاريخية أو مزارات دينية، حيث اعتبرها التنظيم، مجرد أصنام تعبد من دون الله، فقاموا بنسف قبر "النبي يونس" بنينوى، وتدمير الثيران المجنحة للملك سنحاريب، وقد أجمعت أغلب حكومات العالم، على أن العملية تعتبر إرهاباً فكرياً وعقائدياً وفعلاً منافياً لحرية الرأي. وفى الحادي والعشرين من يونيه من العام الجاري، وقبل ثمانية أيام من إعلان الحكومة العراقية تحرير الموصل، قام التنظيم الإرهابي بنسف المئذنة التاريخية الحدباء لمسجد الموصل، الذي أعلن البغدادي من فوق منبره قيام دولتهم الإرهابية، وكأنهم أرادوا تدمير المكان الذي شهد انتصارهم الدموي، أما خليفتهم المزعوم، فقد أعلن فلول التنظيم اليوم عن مقتله في المعارك الضارية التي قادها الجيش العراقي لتحرير المدينة، لتنطوي بذلك صفحة سوداء، أبت إلا أن يسجلها هؤلاء الإرهابيون في تاريخ الموصل، وإن انتهت بتدميرهم.