تقع مجموعة (السيّدة كاف) القصصية لمؤلّفها عاطف عبيد في مائة وثمان وثمانين صفحة، صدرت عن دار روافد عام 2015، وتضمّ عددًا كبيرًا من النصوص السرديّة يتراوح بين القصة القصيرة، ومنها (أيام عزّ) و(جوارب مسعد)، والقصة القصيرة جدا، ومنها (أوراق مهمّة)، والومضة القصصية، ومنها (نور) و(حلم) و(المولد). وهي إضافة نوعية تستحق الإشادة إلى مشهد السرد العربي المعاصر تستثمر تنويعات على القصّة القصيرة التي يرى فيها تشارلز ماي في كتابه (نظريات القصّة القصيرة)، مطبعة جامعة أوهايو، 1976، شكلًا سرديًّا أساسيّا، له صلة وثيقة بالسرد البدائي، الذي يجسّد التصوّر الأسطوري، ومن سماته التكثيف لا التوسّع، والتركيز لا التشتّت، لا يقدّم التفاصيل بشكل خارجي، أو بطريقة ثابتة في الزمان والمكان، بل يقتصر على التفاصيل الضروريّة. ما دام تاريخ القصة القصيرة هو التاريخ الذي تلتقي فيه الشخصيّة بحادثة حاسمة أو أزمة، فإنّ شكل وتراث القصة القصيرة لا يخضعان دائما لتقاليد الواقعيّة السرديّة. إنّ القصّة القصيرة هي بذرة السرد الأولى، لأنّها تأخذ عن الحكاية الشعبية والأسطورة، وتعبّر نشأتها عن تزاوج خلّاق بين الواقعي والرومانسي، بين الاستعارى والكنائى، بين النثر والشعر. تتشكّل في قصص المجموعة عوالم سرديّة شتّى، وينتقل معها المتلقّي إلى أزمنة شتّى، بين ماض في قرية مصريّة، حيث الجدّ والجدّة والبيت الكبير، ودخول الكهرباء وحاضر مثقل بالحنين، محاصر بالأسئلة، تتهدّده مخاطر جمّة، وينبغي له أن يتواءم مع مستحدثات على كل الأصعدة، خصوصا فيما يتعلّق بآليات التواصل بين البشر وأشكاله، وفضاءات زمنيّة متخيّلة – "في نهاية المشوار، ستجلس قبيل الرحيل بساعة وأمامك عدّادات عمرك الطويل إن شاء الله ..." (رسالة إلى صديقي الذي يشكّ في أصابع يده) وإلى أماكن تركها أصحابها – بيوت القرية التي نشأ فيها السارد: دخل أبي الدار، قامت أمّي كعادتها ..." (الباب والسلك) - وأخرى يقيمون فيها في الحاضر – السارد أمام شاشة الكمبيوتر مع ابنه محمّد (كنترول زد) - وثالثة مؤقّتة عابرة – في مطار أو طائرة: "هبطت الطائرة بسلام، فصفّق بعض المسافرين ..." (مطار المحروسة)، "أدخل المطار كعادتي بحقيبة صغيرة تجري من خلفي بعجلاتها ..." (البوّابة)، "يتزاحم المسافرون على باب الطائرة، الكلّ يعرف أنّ له مقعدا فيها، لكنّ الحافلات التي تجري وسط العواصم الكبيرة رسّخت مفهوم التزاحم حتى أمام أبواب الطائرات" (معذرة زوجي العزيز) – وأخرى غير واقعيّة في عالم افتراضي بديل – "راجع أحلامه المؤجّلة، وجد حلما ناقصا. فتّش في كلّ مكان حتّى وجده أخيرا يشرب الخمر في غرفة الكوابيس (غلطة حساب).
تتراوح حالات القصص مع الانتقال من فضاء سردي إلى غيره، من الحنين إلى الماضي في القرية وبيت العائلة، ونظرة جديدة على ممارسات إيجابية وأخرى سلبية، إلى السخرية من تهافت كثير من أوهام البشر عن أنفسهم، ومن المفارقات التي تشتمل أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم، إلى مكاشفات واكتشافات في لحظات فارقة. وفي كلّ الأحوال، لا تفارق القصص الغموض ولا المفاجآت السردية. في عنوان المجموعة (السيّدة كاف) غموض لا يحتاج المتلقّي إلى كثير من الوقت أو الجهد في مطاردته، ففي الإهداء ما يغني عن هذه المطاردة: "إلى كاف وأخواتها – سين أو صاد أو ميم – لا فرق يذكر". ما دامت كلّ الأسماء تشير إلى مسمّيات متشابهة، فلا ثمرة ترجى من حلّ الغموض. كاف وأخواتها متقلّبات، لا بقاء لهنّ على عهد، تمارسن العشق والخيانة بنفس الإخلاص وبإيقاع منتظم لا يفتر ولا يريم: "كانت كاف مخلصة في كلّ أيامها.. تخلص في عشقها يومين، وتغدر بعشّاقها يومين، وتتعرّف على عشّاق جدد في يومين، ويوم الجمعة تنام بين يدي زوجها في إخلاص ألعن من الخشوع" (السيّدة كاف). ومن مشاهدها اللافتة، مشاهد كاف وأخواتها في تقلباتهن، مشهد تلك السيّدة التي تستقلّ الطائرة، ونعش زوجها مع الحقائب في بطن الطائرة، تجلس في حزن وشرود، ولا تلقي بالا إلى أحد، حتّى إذا حلّ الخطر بالطائرة، وأقبل الموت يحاصر من فيها، أصاب الأرملة الباكية الهلع فأنساها رحيل زوجها وشغلها بمصيرها هي. ثم هبطت الطائرة هبوطا اضطراريا فتعلّقت في رقبة جارها في مقعد الطائرة، وهلّلت وانفرجت أساريرها بعد النجاة – "أمّا جارتي فكانت تمسك بيديها في يدي وتدقّ بقدميها من شدّة الفرح على بطن الطائرة ومن فيها" (معذرة زوجي العزيز)، وما أدراك من في بطن الطائرة، جثمان زوجها. مصير الدجاجة التي تقرر الهرب من القفص لتجد سكينًا أم رزقًا في انتظار رقبتها في (أقفاص الرجال)، وصدمة الساكن الوحيد في الطابق الأخير من الفندق وقد ذهبت الخمر بعقله في (الطابق الأخير)، والسنترال الذي يتسع لمائة خط في (المرأة السنترال)، والوالد الذي كشف عن سرّ بكاء طفله في طابور المطار في (مطار المحروسة)، وغيرها مفاجآت سرديّة تكثر في قصص المجموعة، وتميز أسلوب كاتبها وتعبّر عن بعض ميوله السرديّة، فيها تنبيه للمتلقّي الغافل، وصدمة للوعي الكسول، وقلب للتوقّعات القرائيّة، وفيها تحريض على إعادة النظر فيما درجت الآذان على سماعه، والأعين على مطالعته. (السيّدة كاف) مجموعة قصصيّة ممتعة تستحق القراءة والاحتفاء.