هيئة الإسعاف: نجحنا في نقل 30 ألف طفل مبتسر بشكل آمن خلال 2025    «التضامن» توافق على إشهار جمعيتين في محافظة البحيرة    صادرات مصر الزراعية تسجل 6.2 مليون طن خلال 7 أشهر    المدارس الثانوية تواصل تسليم استمارات النجاح لطلاب الثانوية العامة    "الفجر" ترصد لحظة وصول محافظ الدقهلية لموقع كسر خط المياه لمتابعة تنفيذ أعمال الصيانه    رئيس «جهار» يستقبل وفدا من منظمة دعم أداء النظم الصحية والابتكار العالمية    طريقة عمل الكرواسون، لإفطار خفيف وبسيط    التعليم العالي: تجديد الشراكة العلمية بين مصر والصين في مكافحة الأمراض المتوطنة    وزير العمل: التعليم الفني يشهد طفرة كبيرة في السنوات الأخيرة بتعاون وجهود ملحوظة من القطاع الخاص    انتظار صدور حكم في قضية سرقة عملات ذهبية أثرية من متحف ألماني    رصيف محطة هاتشيسون رقم 1 بميناء السخنة يستقبل السفينة ZHEN HUA 36 المخصصة لنقل الأوناش الثقيلة    منتخب مصر يحدد موعد معسكر سبتمبر استعدادا لمواجهتي إثيوبيا وبوركينا    للطلاب المتقدمين لمدارس التكنولوجيا التطبيقية.. طريقة دفع رسوم الاختبار    بدء دخول شاحنات المساعدات الإنسانية من مصر إلى قطاع غزة    الجيش التايلاندي يتهم كمبوديا بانتهاك وقف إطلاق النار    رئيس الوزراء البريطاني يعقد اجتماعا طارئا لبحث مسار السلام في غزة    نقيب المهندسين ل طلاب الثانوية العامة: احذروا من الالتحاق بمعاهد غير معتمدة.. لن نقيد خريجيها    رئيس اتحاد طنجة: عبد الحميد معالي اختار الانضمام إلى الزمالك عن أندية أوروبا    كريم رمزي يعلق على ستوري عبد القادر.. ويفجر مفاجأة بشأن موقف الزمالك    ثنائي المصري أحمد وهب وأحمد شرف ضمن معسكر منتخب الشباب استعدادًا لبطولة كأس العالم بشيلي    بعد القبض على رمضان صبحي.. تعرف على موقفة القانوني ومدة الحبس وموعد الأفراج عن اللاعب    بيان جديد من الكهرباء بشأن «أعطال الجيزة»    رسميًا الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 29-7-2025 في البنوك    أسعار الخضروات والفاكهة اليوم الثلاثاء في شمال سيناء    معيط: دمج مراجعتي صندوق النقد يمنح مصر وقتًا أوسع لتنفيذ الإصلاحات    "حرارة مرتفعة ورطوبة خانقة".. الأرصاد تكشف عن تفاصيل طقس الثلاثاء    عاجل.. الشرطة تلقي القبض على رمضان صبحي بعد عودته من تركيا    وزير التنمية المحلية: شركاء التنمية حليف قوي في دفع العمل البيئي والمناخي في مصر    سميرة صدقي: محمد رمضان وأحمد العوضي مش هيعرفوا يبقوا زي فريد شوقي (فيديو)    وزير الخارجية يلتقي بقادة مجموعة الحكماء The Elders الداعمة للسلام    ترامب: لا أسعى للقاء جين بينج لكني قد أزور الصين تلبية لدعوته    ارتفاع حصيلة ضحايا إطلاق النار فى نيويورك ل5 أشخاص بينهم ضابط شرطة    حملة «100 يوم صحة» تقدم 19.2 مليون خدمة طبية مجانية خلال 13 يوما    رابط التقديم الإلكتروني ل تنسيق الصف الأول الثانوي 2025.. مرحلة ثانية (الحد الأدني ب 6 محافظات)    يوسف معاطي: سعاد حسني لم تمت موتة عادية.. وهنيدي أخف دم كوميديان    ضياء رشوان: الأصوات المشككة لن تسكت.. والرئيس السيسي قال ما لم يقله أحد من الزعماء العرب    مصرع 30 شخصًا في العاصمة الصينية بكين جراء الأمطار الغزيرة    بفرمان من ريبيرو.. الأهلي يتراجع عن صفقته الجديدة.. شوبير يكشف    "بقميص الزمالك".. 15 صورة لرقص شيكابالا في حفل زفاف شقيقته    من «ظلمة» حطام غزة إلى «نور» العلم فى مصر    اليونسكو: الإسكندرية مدينة الانفتاح والإبداع وعاصمة فكرية عالمية    تحت عنوان «إتقان العمل».. أوقاف قنا تعقد 126 قافلة دعوية    وزير الثقافة يشهد العرض المسرحي «حواديت» على مسرح سيد درويش بالإسكندرية    مرشح الجبهة الوطنية: تمكين الشباب رسالة ثقة من القيادة السياسية    النجاح له ألف أب!    صراع على السلطة في مكان العمل.. حظ برج الدلو اليوم 29 يوليو    اليوم.. «الأعلى للثقافة» يعقد اجتماعه ال 72 للتصويت على جوائز الدولة لعام 2025 (قوائم المرشحين)    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    أخبار 24 ساعة.. انطلاق القطار الثانى لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    لجنة للمرور على اللجان الانتخابية بالدقهلية لبحث جاهزيتها لانتخابات الشيوخ    «النادي ممكن يتقفل».. رسائل نارية من نصر أبوالحسن لجماهير الإسماعيلي    6 مصابين في حريق شقة سكنية بالمريوطية بينهم شرطي (تفاصيل)    لها مفعول السحر.. رشة «سماق» على السلطة يوميًا تقضي على التهاب المفاصل وتخفض الكوليسترول.    مي كساب بإطلالة جديدة باللون الأصفر.. تصميم جذاب يبرز قوامها    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البحث عن المستقبل في " قطعة ليل "
نشر في صوت البلد يوم 04 - 10 - 2016

من يقرأ قصص "قطعة ليل" للأديب المصري أحمد الخميسي سيجد أن شخصياتها قد تم اختيارها بدقة لتكشف عن هواجس كاتبها وتجربته الحياتية بأسلوب لغوي خالص، اتخذها ترجمة صريحة لمشاعر الإنسان الممزقة بين الأسى والحلم بشعاع أمل قد يأتي لاحقا.
صدرت هذه المجموعة القصصية سنة 2003 عن دار ميريت للنشر، وتحتوي على 12 قصة قصيرة حملت جملة في الإهداء تختزل خلفية مضمونها: "إلى المستقبل الذي لا يأتي أبدا".
القصة الأولى "تصادف أنني" تحكي لنا قصة شاب شاعر جاء من الريف وكل ثروته قصائد وآمال وجدها أمامه، خصوصا أنه التقى بفتاة شابة أصبحت تتذكره بعد رحيله، كما نقرأ ذلك على لسان السارد: " عيناها كانتا نفس العينين الواسعتين، تشاكسان بتحد ضاحك. لكن شيئا فيهما بعد رحيل الشاعر كان ينفلت من دورة الحياة حولها ويصب روحها كلها بعيدا في عالم آخر. أدهشني أنها ما زالت كما رأيتها وأنا صغير تعيش حقيقة واحدة، كما يحيا الإنسان على ضوء نجوم ربما لم تعد موجودة منذ زمن بعيد." (ص 6)
القصة الثانية "قطعة ليل" تحكي لنا عن رحلة ثلاثة من الشبان كانوا يسيرون منهكين في بحر من الضوء بحثا عن خيط من الظلمة، لكن كل ذلك التعب والإرهاق كان دون جدوى في النهاية: " كان الثلاثة يجرجرون خطواتهم والغبار يتصاعد حول أقدامهم والعرق يسيل من أعناقهم إلى ظهورهم. من وقت لآخر كان أحدهم يتطلع إلى جانبي الطريق المقفرة بحثا عن ظل شجرة، أو إلى السماء ربما تعبر سحابة مثقلة بالماء، أو يرهف السمع إلى خرير مياه في نهر بعيد متخيل." (ص 9)
القصة الثالثة "غيمة" تحكي لنا عن وفاة أم البطل وهي في كامل قواها العقلية والنفسية، حتى أنها لم تكن تريد سوى جرعة ماء قبل رحيلها غير أن روحها لازمت ابنها الأصغر على مدى شهرين:
"أشفقنا جميعا على أخي لأنه يعيش في نفس الشقة تحيطه أنفاس أمي وأشياؤها. وكنا نستشعر صعوبة وضعه إذا تجمعنا في البيت لسبب أو آخر، لأننا كنا نحس أن طيف أمي يجوس صامتا سجينا في الهواء." (ص 15)
قد يلاحظ المتلقي أن هناك علاقة موازية إجمالا بين النصوص القصصية في "قطعة ليل" وعناوينها التي تنطوي على صيغ وجدانية تتجسد في اندماج الشخصية الرئيسية مع الآخر.
تعود الذاكرة بالبطل إلى سن التاسعة في القصة الرابعة "إغفاءة" حين زار والده في السجن، وبمرور السنوات تتكرر زيارة الأب له وهو سجين، كما نستشف ذلك في المشهد السردي الآتي: " زارني وجلسنا في غرفة مأمور آخر، بسجن آخر. هذه المرة لم تسعفه حيل الكبار الأولى ولم تسعفني براءة السنوات الأولى. راح يتطلع فيما حوله بقلق مفتشا في الغرفة المقبضة عن ريشة من طائر البهجة، ثم وكأنما عثر عليها أخرج كيسا كبيرا دفع به تحت أنف المأمور قائلا: وضعت هنا كل الممنوعات معا الشاي والبن والورق والأقلام لتسمح بمرورها كلها دفعة واحدة. ودارى المأمور ضحكته بيده. فابتسم وضمني بعينيه يسألني دون كلام: شفت؟" (ص 22)
القصة الخامسة "نتف الثلج" تجمع البطل بحبيبته في رحلة على متن القطار باتجاه توديع صديق سيسافر إلى وطنه، فتجمعهما الصدفة بالعديد من الشخصيات تحديدا طفلة صغيرة تجذب انتباه الجميع، حتى أنها تدفع البطل للتفكير في نهاية علاقته مع حبيبته: " تأملت الرجل والطفلة معا. رأيت – كأنما فجأة - أنهما يبدوان كأب وابنته حقا. نقلت بصري إلى الأم وشاهدتها بعين أخرى: راكبة عابرة جلست بالمصادفة بالقرب منهما." (ص 29)
يحاول البطل إبعاد ذلك الشخص المعروف الذي لم يسبق أن رآه عن ذاكرته في القصة السادسة "قرب الفجر" بعدما تخلف عن موعده في الحضور لتناول العشاء مع الجميع، غير أن أفراد أسرته خصوصا العمة تستنكر أنه لا يساعد غيره خصوصا أقاربه، كما جاء ذلك على لسان السارد: " فكرت أنه لا بد من مقابلته إن حانت الفرصة لأرى من يكون. ولما دعيت تلك الليلة إلى العشاء وقيل لي إنه سيحضر ذهبت إلى هناك بأمل." (ص 34)
تتمتع الشخصيات المحورية في قصص "قطعة ليل" ببطولة عادية تعكس نفسية الإحباط والانكسار والضعف والفشل والحب والحنين إلى الماضي، فهي لا تمتلك سلاحا سوى الأمل في غد أفضل قد لا يأتي أبدا.
يظل البطل – الصبي - في انتظار أمه في القصة السابعة "السند" وهو على سطح البيت، ويملأ قلبه السرور بعدما يطل رأسها من هبوة غبار بضوء الشمس من بعيد: " تخض الفرحة قلبه بشدة عندما تصبح أمه قريبة واضحة وترفع عينيها إلى السطح لأنها تتوقع أنه يقف هناك يتطلع إلى الطريق ولا يفقد الأمل." (ص 39)
في القصة الثامنة "اثنان" تسافر زوجة البطل إلى الإسكندرية بحثا عن عمل بينما يظل هو على عادته بين البيت والوظيفة، غير أن تلك العلاقة كانت تمر بفتور عاطفي، كما نستشف ذلك في المشهد السرد الموالي: "كانت تدرك أن تلك المشكلة ليست كل ما يسوقها إلى الإسكندرية والالتقاء هناك بعزت بحثا عن عمل. ثمة شيء آخر أيضا، ربما شعورها الذي يطفو ثقيلا أنها لا تحس بالطمأنينة معه، لأنه في أغلب الأحوال نهب لوساوس وظنون صغيرة تسعى كالظلال تلتهم شعوره بمتعة الوجود." (ص 49)
في القصة التاسعة "نقطة عبور" يحكي لنا البطل عن فرصته الذهبية في حصوله على بطاقة لحضور حفلة السلطانة، والتي كانت محض صدفة لا تفوت: " كان ضابطا كبيرا في الجيش، ولم ينجب، فاعتبرني في محل ولده لأنني كنت أظل واقفا –عند زيارته لنا - خافض الرأس لا أجلس أبدا إلا بعد أن يستريح هو على مقعده فيمتدحني: أنت شاب محترم. هكذا بدأت علاقتنا. لهذا حصلت على البطاقة، وها أنا أرسل بصري إلى المنصة منتظرا أن تخفت أنوار الصالة وتشرق كوكب الغناء." (ص 56)
يتعرف البطل على زوجته صدفة في القصة العاشرة "موج أبيض" فيتزوجها، ثم بمرور الوقت يكتشف خيانتها له دون سابق إنذار، كما جاء على لسان السارد: " لم تعد تشبه المرأة التي عرفتها من قبل. مكثت متجمدا في مكاني لحظات ألاحق ما يتهدم في داخلي حتى لم يبق بين ضلوعي سوى فراغ أسود. لم أعد أنا أيضا أشبه نفسي. حط علي شعور ثقيل كئيب." (ص 64)
يستعين المبدع أحمد الخميسي في قصص "قطعة ليل" بتقنية المونولوج الداخلي ليعكس رؤى شخصياتها وتأملاتها الفكرية وهي تلاحق تشظي الذاكرة كي يتحقق دمجها بأحداث الزمن الحاضر.
يجد البطل نفسه يقف في عتمة الشرفة في القصة الحادية عشرة "نبضة" بعد زيارته للطبيب مع زوجته الحامل، والتي تمنت ألا يحدث ذلك لظروفهم المعيشية القاسية خصوصا بعد تحطم كتفه بسبب انزلاقه بالموتوسيكل وهو ينقل شطائر البيتزا الساخنة في صندوق مغلق: " خلال الشهور الأولى باع التلفزيون، ثم تصرفت نوال في السلسلة والقرط الذهبي وأثناء بحثه عن عمل بدأ رحلة القروض الصغيرة، وانتهى بمبيت عند الأقارب اتخذ في البداية شكل زيارة بالمصادفة، وحين تكررت المصادفة أدرك الجميع ما وراءها، فتضاءلت الحفاوة وبان الفتور." (ص 75 - 76 )
تتدافع الصور المتكررة كل يوم إلى ذاكرة البطل في القصة الأخيرة "وقت آخر" فيستغرب الأمر، حتى أنه لا يجد تفسيرا مطلقا لصور قريته الناعسة التي تتكرر نفسها بلا نهاية ووجوه الركاب في الأتوبيس التي لم تعد تتبدل، حتى أن عمله لا يبدأ إلا بعد استدعاء المدير له، كما أن نفس كلمات زميله تتكرر عن الخطوبة فيحاول الهرب من كل هذا من خلال طلب إجازة مرضية:
"هل يصدق الأطباء ويكذب عقله الذي يعي وعينيه اللتين تريان؟ وهل من دواء يطرد ما تثيره أحداث الأيام الأخيرة من شعور غريب بأنه يعيش حياة بالية من زمن سابق لرجل آخر استنفدها ثم خلعها لأول عابر طريق؟" (ص 85)
لا تخلو هذه المجموعة القصصية من انكسار ذاتي لنفسية شخصيات المبدع أحمد الخميسي في العموم، وهي تبحث لها عن بقعة ضوء في حياتها المستقبلية التي قد لا تأتي غالبا لكن يبقى الأمل قائما لطرد جرعات الألم القاسية تلك، حتى أنها عكست مقدرة الكاتب على تطويع السرد القصصي لخدمة النفس البشرية الممزقة بلغة بسيطة لا تخلو من الواقعية ذات الأبعاد الرمزية.
من يقرأ قصص "قطعة ليل" للأديب المصري أحمد الخميسي سيجد أن شخصياتها قد تم اختيارها بدقة لتكشف عن هواجس كاتبها وتجربته الحياتية بأسلوب لغوي خالص، اتخذها ترجمة صريحة لمشاعر الإنسان الممزقة بين الأسى والحلم بشعاع أمل قد يأتي لاحقا.
صدرت هذه المجموعة القصصية سنة 2003 عن دار ميريت للنشر، وتحتوي على 12 قصة قصيرة حملت جملة في الإهداء تختزل خلفية مضمونها: "إلى المستقبل الذي لا يأتي أبدا".
القصة الأولى "تصادف أنني" تحكي لنا قصة شاب شاعر جاء من الريف وكل ثروته قصائد وآمال وجدها أمامه، خصوصا أنه التقى بفتاة شابة أصبحت تتذكره بعد رحيله، كما نقرأ ذلك على لسان السارد: " عيناها كانتا نفس العينين الواسعتين، تشاكسان بتحد ضاحك. لكن شيئا فيهما بعد رحيل الشاعر كان ينفلت من دورة الحياة حولها ويصب روحها كلها بعيدا في عالم آخر. أدهشني أنها ما زالت كما رأيتها وأنا صغير تعيش حقيقة واحدة، كما يحيا الإنسان على ضوء نجوم ربما لم تعد موجودة منذ زمن بعيد." (ص 6)
القصة الثانية "قطعة ليل" تحكي لنا عن رحلة ثلاثة من الشبان كانوا يسيرون منهكين في بحر من الضوء بحثا عن خيط من الظلمة، لكن كل ذلك التعب والإرهاق كان دون جدوى في النهاية: " كان الثلاثة يجرجرون خطواتهم والغبار يتصاعد حول أقدامهم والعرق يسيل من أعناقهم إلى ظهورهم. من وقت لآخر كان أحدهم يتطلع إلى جانبي الطريق المقفرة بحثا عن ظل شجرة، أو إلى السماء ربما تعبر سحابة مثقلة بالماء، أو يرهف السمع إلى خرير مياه في نهر بعيد متخيل." (ص 9)
القصة الثالثة "غيمة" تحكي لنا عن وفاة أم البطل وهي في كامل قواها العقلية والنفسية، حتى أنها لم تكن تريد سوى جرعة ماء قبل رحيلها غير أن روحها لازمت ابنها الأصغر على مدى شهرين:
"أشفقنا جميعا على أخي لأنه يعيش في نفس الشقة تحيطه أنفاس أمي وأشياؤها. وكنا نستشعر صعوبة وضعه إذا تجمعنا في البيت لسبب أو آخر، لأننا كنا نحس أن طيف أمي يجوس صامتا سجينا في الهواء." (ص 15)
قد يلاحظ المتلقي أن هناك علاقة موازية إجمالا بين النصوص القصصية في "قطعة ليل" وعناوينها التي تنطوي على صيغ وجدانية تتجسد في اندماج الشخصية الرئيسية مع الآخر.
تعود الذاكرة بالبطل إلى سن التاسعة في القصة الرابعة "إغفاءة" حين زار والده في السجن، وبمرور السنوات تتكرر زيارة الأب له وهو سجين، كما نستشف ذلك في المشهد السردي الآتي: " زارني وجلسنا في غرفة مأمور آخر، بسجن آخر. هذه المرة لم تسعفه حيل الكبار الأولى ولم تسعفني براءة السنوات الأولى. راح يتطلع فيما حوله بقلق مفتشا في الغرفة المقبضة عن ريشة من طائر البهجة، ثم وكأنما عثر عليها أخرج كيسا كبيرا دفع به تحت أنف المأمور قائلا: وضعت هنا كل الممنوعات معا الشاي والبن والورق والأقلام لتسمح بمرورها كلها دفعة واحدة. ودارى المأمور ضحكته بيده. فابتسم وضمني بعينيه يسألني دون كلام: شفت؟" (ص 22)
القصة الخامسة "نتف الثلج" تجمع البطل بحبيبته في رحلة على متن القطار باتجاه توديع صديق سيسافر إلى وطنه، فتجمعهما الصدفة بالعديد من الشخصيات تحديدا طفلة صغيرة تجذب انتباه الجميع، حتى أنها تدفع البطل للتفكير في نهاية علاقته مع حبيبته: " تأملت الرجل والطفلة معا. رأيت – كأنما فجأة - أنهما يبدوان كأب وابنته حقا. نقلت بصري إلى الأم وشاهدتها بعين أخرى: راكبة عابرة جلست بالمصادفة بالقرب منهما." (ص 29)
يحاول البطل إبعاد ذلك الشخص المعروف الذي لم يسبق أن رآه عن ذاكرته في القصة السادسة "قرب الفجر" بعدما تخلف عن موعده في الحضور لتناول العشاء مع الجميع، غير أن أفراد أسرته خصوصا العمة تستنكر أنه لا يساعد غيره خصوصا أقاربه، كما جاء ذلك على لسان السارد: " فكرت أنه لا بد من مقابلته إن حانت الفرصة لأرى من يكون. ولما دعيت تلك الليلة إلى العشاء وقيل لي إنه سيحضر ذهبت إلى هناك بأمل." (ص 34)
تتمتع الشخصيات المحورية في قصص "قطعة ليل" ببطولة عادية تعكس نفسية الإحباط والانكسار والضعف والفشل والحب والحنين إلى الماضي، فهي لا تمتلك سلاحا سوى الأمل في غد أفضل قد لا يأتي أبدا.
يظل البطل – الصبي - في انتظار أمه في القصة السابعة "السند" وهو على سطح البيت، ويملأ قلبه السرور بعدما يطل رأسها من هبوة غبار بضوء الشمس من بعيد: " تخض الفرحة قلبه بشدة عندما تصبح أمه قريبة واضحة وترفع عينيها إلى السطح لأنها تتوقع أنه يقف هناك يتطلع إلى الطريق ولا يفقد الأمل." (ص 39)
في القصة الثامنة "اثنان" تسافر زوجة البطل إلى الإسكندرية بحثا عن عمل بينما يظل هو على عادته بين البيت والوظيفة، غير أن تلك العلاقة كانت تمر بفتور عاطفي، كما نستشف ذلك في المشهد السرد الموالي: "كانت تدرك أن تلك المشكلة ليست كل ما يسوقها إلى الإسكندرية والالتقاء هناك بعزت بحثا عن عمل. ثمة شيء آخر أيضا، ربما شعورها الذي يطفو ثقيلا أنها لا تحس بالطمأنينة معه، لأنه في أغلب الأحوال نهب لوساوس وظنون صغيرة تسعى كالظلال تلتهم شعوره بمتعة الوجود." (ص 49)
في القصة التاسعة "نقطة عبور" يحكي لنا البطل عن فرصته الذهبية في حصوله على بطاقة لحضور حفلة السلطانة، والتي كانت محض صدفة لا تفوت: " كان ضابطا كبيرا في الجيش، ولم ينجب، فاعتبرني في محل ولده لأنني كنت أظل واقفا –عند زيارته لنا - خافض الرأس لا أجلس أبدا إلا بعد أن يستريح هو على مقعده فيمتدحني: أنت شاب محترم. هكذا بدأت علاقتنا. لهذا حصلت على البطاقة، وها أنا أرسل بصري إلى المنصة منتظرا أن تخفت أنوار الصالة وتشرق كوكب الغناء." (ص 56)
يتعرف البطل على زوجته صدفة في القصة العاشرة "موج أبيض" فيتزوجها، ثم بمرور الوقت يكتشف خيانتها له دون سابق إنذار، كما جاء على لسان السارد: " لم تعد تشبه المرأة التي عرفتها من قبل. مكثت متجمدا في مكاني لحظات ألاحق ما يتهدم في داخلي حتى لم يبق بين ضلوعي سوى فراغ أسود. لم أعد أنا أيضا أشبه نفسي. حط علي شعور ثقيل كئيب." (ص 64)
يستعين المبدع أحمد الخميسي في قصص "قطعة ليل" بتقنية المونولوج الداخلي ليعكس رؤى شخصياتها وتأملاتها الفكرية وهي تلاحق تشظي الذاكرة كي يتحقق دمجها بأحداث الزمن الحاضر.
يجد البطل نفسه يقف في عتمة الشرفة في القصة الحادية عشرة "نبضة" بعد زيارته للطبيب مع زوجته الحامل، والتي تمنت ألا يحدث ذلك لظروفهم المعيشية القاسية خصوصا بعد تحطم كتفه بسبب انزلاقه بالموتوسيكل وهو ينقل شطائر البيتزا الساخنة في صندوق مغلق: " خلال الشهور الأولى باع التلفزيون، ثم تصرفت نوال في السلسلة والقرط الذهبي وأثناء بحثه عن عمل بدأ رحلة القروض الصغيرة، وانتهى بمبيت عند الأقارب اتخذ في البداية شكل زيارة بالمصادفة، وحين تكررت المصادفة أدرك الجميع ما وراءها، فتضاءلت الحفاوة وبان الفتور." (ص 75 - 76 )
تتدافع الصور المتكررة كل يوم إلى ذاكرة البطل في القصة الأخيرة "وقت آخر" فيستغرب الأمر، حتى أنه لا يجد تفسيرا مطلقا لصور قريته الناعسة التي تتكرر نفسها بلا نهاية ووجوه الركاب في الأتوبيس التي لم تعد تتبدل، حتى أن عمله لا يبدأ إلا بعد استدعاء المدير له، كما أن نفس كلمات زميله تتكرر عن الخطوبة فيحاول الهرب من كل هذا من خلال طلب إجازة مرضية:
"هل يصدق الأطباء ويكذب عقله الذي يعي وعينيه اللتين تريان؟ وهل من دواء يطرد ما تثيره أحداث الأيام الأخيرة من شعور غريب بأنه يعيش حياة بالية من زمن سابق لرجل آخر استنفدها ثم خلعها لأول عابر طريق؟" (ص 85)
لا تخلو هذه المجموعة القصصية من انكسار ذاتي لنفسية شخصيات المبدع أحمد الخميسي في العموم، وهي تبحث لها عن بقعة ضوء في حياتها المستقبلية التي قد لا تأتي غالبا لكن يبقى الأمل قائما لطرد جرعات الألم القاسية تلك، حتى أنها عكست مقدرة الكاتب على تطويع السرد القصصي لخدمة النفس البشرية الممزقة بلغة بسيطة لا تخلو من الواقعية ذات الأبعاد الرمزية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.