الذي يدهشك في رواية أجاثا كريستي "أخناتون"، الصادرة عام 1977، ترجمة حلمي مراد، أنها كانت تصدر وتباع، حسب روايات الهلال في ذلك العام، بسعر 150 مليمًا، أي خمسة عشر قرشا مصريا، حسبما هو مدون على الغلاف الداخلي للرواية، وكانت في عهد الرئيس جمال عبد الناصر تباع بخمسة قروش فقط، وبذلك كانت الثقافة للجميع، في حين تجد كثيرًا من الروايات المصرية والعربية هذه الأيام تباع بأكثر من مائة وخمسين جنيهًا مصريًا، فصارت الثقافة للأغنياء فقط، أولئك الذين يملكون الثروات، ولكنهم لا يتفاعلون مع عرق العاملين والفقراء، ولا يحتاجون إلا إلى روايات من نوع آخر، روايات بوليسية دراماتيكية، أو رومانسية، أو عنيفة مدمرة للعقل، ولا تحمل أفكار التغيير، روايات خاصة بمشاعرهم الاستهلاكية، للتسلية على شاطئ البحر، وليست ثقافة "الفن والفكر والقضايا الوطنية". الأسئلة الكثيرة دارت حول "أخناتون"، ليست فقط بسبب كونه آمن بديانة جديدة، هي ديانة التوحيد لإله في السماء، وليس لآلهة متعددة مصنوعة كتماثيل حجرية، ولكن بسبب زواجه من نفرتيتي غير المصرية.. ترى من هي نفرتيتي؟ وهل هي حقًا غير مصرية؟ وكيف تكون زوجته غير مصرية؟. الذي يجعلنا نتقبل هذه الفرضية هو أن أمه "تيي"، زوجة "أمنحوتب الثالث"، لم تكن فرعونية الدم الملكي، ولم تكن مصرية، بل كانت كنعانية شامية، وكانت تتحكم في إدارة شئون البلاد، خاصة في السنوات الأخيرة من حكمه، وهو عجوز ضعيف البنية، لاحظ قولها فى صفحة 44 من رواية "أخناتون" لأجاثا كريستي: "وجميع الرجال أطفال، مجرد أطفال، ولا بد أن يقادوا، ونلاطفهم بالكلمات الناعمة والقبلات، وبذلك ننقذهم من عواقب حمقهم"، فلِم لا تكون قد استغلت هذه النظرية فسهلت لابنها طريق التعرف على صبية ساحرة الجمال من بلاد الشام، تعبد الإله "إل"، أو "إيل"، وقد تكون من قريباتها أو معارف أهلها هناك، خاصة أن بلاد الكنعانيين الشوام كانت هي وبلاد الرافدين خاضعة لحكم الفرعون، أو متحدة مع مصر، وكانت جيوش الفرعون أمنحوتب الثالث، بقيادة القائد القوي الشاب "حور محب"، مستنفرة في منطقة "مجدو" الفلسطينية، وكان ولي العهد "أخناتون" مرسلًا من قبل أبيه، أو أمه، أو كليهما، ليرافق القائد العسكري المنتصر "حور محب"، وليطّلع بنفسه على دروب القتال في تلك المعركة الفاصلة التي لم تتم بين الفراعنة و"الكنعانيين" الذين يسميهم المستشرقون الغربيون "هكسوس"، وهو اسم اعتقد شخصيًا أن الهدف منه هو مسح تاريخ الكنعانيين، بينما كان البحر المتوسط يعتبر يومها بحيرة كنعانية!. ومعركة "مجدو" لم تتم بسبب تحويل "أخناتون" الشاعر المحب الذكي الصراع العسكري بين الفريقين إلى صراع تفاوضي، وقد يكون هذا التفاوض هو الذي أدى للتعارف بين أخناتون ونفرتيتي الكنعانية الساحرة الجمال، والتي يبدو أن اسمها مشتق من قريبتها "تيي" زوجة الفرعون الأب "أمنحوتب الثالث"، والذي يعزز هذه الفرضية أن "أخناتون"، بعكس باقي الملوك الفراعنة، لم يحب غير نفرتيتي، ولم يتزوج غيرها على عادة الكنعانيين، حيث كان الإله "إل" لديهم متزوجًا من الالهة عشيرة وحدها، وغير متعدد الزوجات. ترى هل كانت نفرتيتي، التي تعتنق الديانة الكنعانية ذات الإله الواحد "إل"، هي التي أقنعته بعبادة الإله الأوحد في السماء، وليست آلهة "آمون" المتعددة التي هي مجرد حجارة منحوتة يمكن لمسها على الأرض، فارتقى تفكيره، وراح يفكر بأن طاقة الشمس، المتمثلة بالإله "رع"، هي الله الذي يجب أن يعبد، وذلك ما يوضح ذكاء أخناتون المبكر في التاريخ بعبادة الله الذي هو نور السموات والأرض، وليس التماثيل التي على الأرض، ولك ما اتضح لاحقًا في القرآن الكريم بقوله تعالى: "الله نور السموات والأرض". والذي يعزز هذه الفرضية أن أخناتون كان شاعرًا فنانًا مفكرًا أكثر منه فرعونًا، وكان ذا شخصية بسيطة جمالية، يحب التمتع بالطبيعة، ولا يعشق غير زوجته نفرتيتي، ولهذا نستطيع قبول كونها قد أقنعته بسهولة بقبول هذا الدين السماوي، لسببين: الأول أنه رجل بسيط، ويقبل المنطق، والآخر أنه كان يحبها حبًا جمًا، وهي ملكة الجمال الساحرة، فجعلته يقتنع بقولها. يضاف إلى ذلك أنه بصفته شاعرًا لا يريد أن يكون إلهه حجرًا ملموسًا باليد، ومتعدد الأشكال، بل كان يريده شيئًا بعيدًا، فيه إمكانية التخيل، ولا يُلمس باليد، على مذهب الشعراء الذين يهتمون بالخيال. أدهشني هذا الفرعون الجميل الذي كان ثمن صدقه مع نفسه، ومحبته لجمهور شعبه، أن ثار عليه رجال الدين، وانتقموا منه شر انتقام، وعزلوه عن الحكم. ---- صبحي فحماوي (كاتب من الأردن)