د.إلهام سيف الدولة حمدان تعلمنا في جولاتنا في صالات معارض الفنانين التشكيليين؛ أن نقف طويلاً أمام اللوحات المعروضة؛ لمحاولة تفكيك وفهم مايسمى ب"سيكولوجية الخطوط والألوان"؛ ويصل التأثير والإحساس داخل الوجدان؛ كلٌ بحسب اطلاعه ورؤيته ورؤاه وذائقته وثقافته النقدية حتى لو كان من غير المتخصصين، وربما يكون غير المتخصص بإحساسه العفوي التلقائي أشد إنصافًا للفنان؛ عكس "المتخصص الأكاديمي" الذي يؤطر اللوحات من خلال مفاهيمه النقدية المعاصرة. لكن مابالنا ولوحات معرض "سيوة بين الماضي والحاضر" الذي أنار قاعة "الدكتور مختار عبد الجواد" داخل قلعة الفن الراقي في قاهرة المحروسة؛ والشهيرة باسم "أكاديمية الفنون"؛ وهي عبارة عن "صور فوتوغرافية" مجسمة تكاد تنطق لترصد بقعة عزيزة على قلب كل مصري هي "واحة سيوة"؛ وفيها يتجلى إحساس صاحب المعرض الفنان إسلام عز العرب بعبقرية المكان والبشر.. ليجبر "عين الكاميرا" على أن ترى بعيونه ما لايراه الآخرون؛ لنقف مشدوهين أمام لوحات تنطق بالحركة والحياة؛ ربما أشد جمالاً مما تعكسه ريشة الفنان. هو يصور البشر والحَجَر، والعادات والتقاليد، والقيم والعقائد، والطقوس المصاحبة لهذه العقائد الممتزجة بنفحات طقوس رجالات الصوفية ومحبي أهل البيت، بل تكاد تشم رائحة عبق المكان من فرط الصدق في لقطاته المُعبرة المنتقاه بعين المٌحب الغيورعلى جمال وبهاء وقدسية الأمكنة؛ التي تجعلك تتحسس خُطاك حتى لاتتعثر في الرمال والأحجار والحصى وأنت في رحلة استعراض اللوحات المتناثرة كاللؤلؤ على جنبات القاعة الرائعة؛ والتي أعطتها "هندسة الإضاءة" الرومانسية.. جمالاً فوق جمالها. المعرض يضم بين جنباته 52 صورة فوتوغرافية.. تجسد وتوثق الطقوس الخاصة بعيد السياحة بواحة سيوة، من خلال رصد العادات والمعتقدات والتقاليد الخاصة بأهلها؛ وخروجهم إلى الخلاء واعتلاء قمة "جبل الدكرور" وهو مكان الاحتفالية السنوية، وفي هذا التجمع الشعبي المهيب تتم المصالحات وتسوية ما قد يستجد من بعض الخصومات التي تظهر بين بعض الأسر، ويُعد هذل الملتقى فرصة جيدة للتعارف بين الشبان والشابات في جو أسري جميل، ومن هذا التعارف المرصود تحت أعين ومباركة الأهل والخلان؛ تتم الزيجات السعيدة.. وفيه يذهب الشباب إلى المزارع لحصد ثمار الموسم من الزيتون والبلح، الذي يُمنح من حصيلته "مهور العرائس" وتكاليف الحفلات الموسمية، وهي عادات متوارثة منذ قديم الزمان؛ مازالوا يحافطون عليها باعتبارها هويتهم وجذورهم الممتدة منذ وجد الإنسان في تلك المنطقة. في الحقيقة؛ تستلزم الجولة المتأنية لاستعراض اللوحات إلى الساعات الطوال؛ لكن دعوني أنقل شعوري نحو واحدة تلو الأخرى ربما دون ترتيب ولكني سأوحد المقامات لنقل ملامح المجموعات التي تعتني بالإنسان ثروة الأمم والحضارات؛ بداية من الطفولة وبهجتها؛ فهم أمل المستقبل الواعد المضيء. فهذه الطفلة وهذا الطفل بملابس مزركشة بكل ألوان الطيف؛ تجملهما ابتسامة عريضة تكاد تنطق بالسعادة؛ فتكشف عن "أسنانٍ" بيضاء ناصعة؛ قد أحسنت "جلوتها" تمور نخيلها الوارف الظلال؛ ولم يعرف "السوس" طريقًا إليها. وهنا.. نقف لحظة، للتأمل في لوحة فوتوغرافيا "الأكف " وهي كفوف العريس بالضرورة "في ليلة "الحناء"؛ وقد خضبتها النقوش في براعة تفوق براعة الفنان التشكيلي بريشته وألوانه.. فتنضح "الحناء" وكأنها الدماء التي تسري في العروق حاملة كل "جينات" الفرح والسعادة في ليلته الليلاء. ثم لوحة هؤلاء الرجال الأشداء أصحاب "العمائم" والجلابيب البيضاء؛ تكاد تسمعهم يتبادلون العناق والتهاني والتبريكات في الأفراح والمناسبات؛ تنطق الوجوه بالبشر الصادق غير الكذوب، فهم يستمدون هذه الطيبة من مساحات "البراح" الممتد ليعانق السماء في نهاية الأفق؛ وتركز عدسة الفنان على تقاطيع الوجوه وتجاعيدها التى اكتست بسُمرة الشمس الذهبية؛ لكنها تنطق ببياض القلوب ونقاء الأرواح. وها هي لوحات: الطقوس الصوفية.. والرجال في حلقات كأنهم اللؤلؤ المنثور بالزي الجميل ناصع البياض؛ تنظر إليهم فلا تملك إلا أن تتمايل معهم وكأنك تشاركهم حلقة "الذكر"؛ وتنشد معهم ترانيم "الأوراد والأذكارالصوفية" في عشق الذات الإلهية؛ لتتداعى إلى ذهنك على الفور أشعار الحلاج وابن الفارض والشعراني والبوصيري وأبو اليزيد البسطامي وأبي الحجاج الأقصري؛ وكل أساطين المذاهب الصوفية على اختلاف مشاربها وتوجهاتها.. وكلهم بلا استثناء يذوبون عشقًا في حُب الله عز وجل؛ فيمنحهم هذا المزيد من التراحم والتعاطف الرائع .. الذي سنراه مجسدًا في اللوحات القادمة. المدهش والرائع في مجموعة هذه الصور الحياتية الشارحة لطقوس إقامة الحفلات؛ مشاركة الرجال والأطفال والنساء الطاعنات في العمر منهن والشابات؛ في جمع "الخبز وكسراته" من المنازل لعمل"أناجر الفتة" لإطعام المئات من الحاضرين.. ويتيسر ذلك بعد ذبح مايجود به الموسرون وذوو الحيثية من "خراف وعجول" ليكون "الثريد" جاهزًا في وقت التجمع حول "مائدة اللحم" ؛ وقبلها صور حيّة لمجموعات تقوم بتجهيز "الكانون" وهو عبارة عن أحجار مرتفعة تحتها فجوات لإشعال النار في الخشب لتوضع فوقه الأواني الضخمة وتركها للنار التي تشعر بلهبها من خلال الصورة لتقوم بإنضاجها وتجهيزها للطعام؛ ليلتف حولها الجميع بكل السعادة والحبور. لا أخفي تأثري ومشاعري المرهفة أمام كل "لوحة" تعبيرية؛ وكأنها "قصيدة شعر" أبدع الفنان الباحث إسلام عز العرب؛ في ترجمتها من اللفظ والدلالة إلى صور رائعة تكاد تنطق بالحياة. ---- د.إلهام سيف الدولة حمدان (أستاذة العلوم اللغوية بأكاديمية الفنون)