اندثرت البرديات.. ولم يتبق من منزل "كليوباترا" سوى عشرين قدما تحت الماء.. لكن "كليوباترا" ماتت قبل ميلاد المسيح، ولم تتقابل أبدا مع أي من كُتاب سيرتها الذاتية، وكأنها تعمدت إخفاء حقيقتها وراء وجه شائع، ولذلك تأنت الكاتبة "ستايس شيف" وهي تتناول سيرتها، ولم تعتبرها مجرد موضوع تكتب عنه، لكنها ترقَّت بثقة إلى ما تستحقه "كليوباترا" من اهتمام حطَّم سيطرة النموذج أو الشكل، وأظهر إتقانها لنموذج "الارتجال العظيم". الصحفية الأمريكية "كاترين هاريسون" استعرضت في مقال قبل أيام بجريدة "هيرالد تربيون" الدولية كتاب "ستايس شيف" المعنون "كليوباترا" مُلمِّحة أن هدف "شيف" ليس تقديم طبعة نسائية منقحة لسيرة التقطتها من العصور القديمة. تحليل شيف للسنوات التى قضاها "بنيامين فرانكلين" فى باريس كشف عن عبقرية مختلفة في الكتابة..القدرة الذهنية المطلوبة لتحمل فك ما لا نهاية له من تقاطعات صعبة في الشخصيات الإنسانية والعلاقات الدولية. تقول "شيف" إنها فى الغالب استعادت الحالة نفسها بالنسبة لحياة كليوباترا، لكن المطالبة بالرصد المتواضع تتوقف عندما نتابع البحث في حياتها المليئة بالتفاصيل. لإعادة إحياء " كليوباترا " ورؤيتها على حقيقتها لابد من أخذ مسافة بعيدا عن الأسطورة المتلألئة التي خلقها أولئك الذين سحرتهم جاذبيتها كأنثى، والتي يبدو بوضوح أنها أقل إرباكا من الاعتراف بنتاجها الفكري وثقافتها. في البداية فإن "لوكان" ، "إبيان"، "جوزيفس"، "ديو سوتينيوس"، "بلوتراخ" هم أوائل كُتاب السيرة الذاتية الذين صوروا كليوباترا، وكانوا كلهم رومانيون وذكور، كتبوا أهم أجزاء حياتها بعد مرور قرن أو أكثر على وفاتها مع تعمدهم وصف مدة حكمها، بأنها أكثر قليلا من تعر يُؤدَّى ببراعة. وعلى الرغم من أن الإسكندرية هى العاصمة الفكرية للعالم ومصر رائدة قديمة في المساواة بين الجنسين، إلا أنه لم يوجد بها مؤرخ يُحصي جدول أعمال أولئك الذين يفندون عقلية المرأة ذات الاستقلالية في تفكيرها. وكما لاحظت "شيف" فإن كليوباترا قد تتباهى بأنها واحدة من أكثر المتواجدين في التاريخ بعد انقضاء حياتهم. ويشمل ذلك، تجسيد صورتها كنجمة البحر، وفي لعبة الفيديو جيم و ماركة سجائر وعلى آلة فتح المعلبات. إن نادي صور "كليوباترا" هو ناد مواز لنادي "إليزابيث تايلور" التي تضاهي صورتها في الانتشار. لكن قطعة واحدة فقط من آثارها الوثائقية التى يمكن إرجاعها إليها، وهي كلمة واحدة مكتوبة تترجم (فليكن ذلك)، والتي وقَّعتها بيدها على أحد المراسيم هي أو كاتبها الخاص، ولم تترك كليوباترا أي مصادر أولية يمكن الرجوع إليها. ولدت كليوباترا فى عام 69 قبل الميلاد، واعتلت عرش مصر فى سن الثامنة عشرة، ولم تكن طفولتها موضع اهتمام لدى القدماء المصريين. تشرح "شيف" كيف أن المؤرخين كانوا يميلون أن يبرزوا جمالها المتكامل، وفي الوعي العام بدأ تسجيلهم لحياتها عندما تأثروا بما قرأوه عنها في التاريخ. لصرف القارئ حاليا عن غياب تفاصيل عن السنوات المبكرة من حياتها تلفت "شيف" انتباهنا بعناية إلى تفسير وإن يكن جغرافيًا، إمرأة فاتنة، الإسكندرية، توازن رائع على ساحل البحر المتوسط ، مواكب جاهزة للاصطفاف بطول المدينة وروائع آلية كالمصاعد وآلات تعمل بالعملات المعدنية وتماثيل بعيون متحركة ، لقد جعلت الإسكندرية عاصمة مصر مدينة روما تشبه "مقاطعة معزولة وراكدة". استدعاء "شيف" لصورة المدينة يبدو ناضجا وسينمائيا، يترك إحساسا للمرء بأنه يزور "لاس فيجاس" القديمة مضافا إليها ميناء مزدحم، ومكتبة ضخمة. عندما تولت "كليوباترا" السلطة وفقا لإرادة والدها، شاركها فى الحكم شقيقها "بطليموس" وكان عمره 10 سنوات وتزوجته كليوباترا بعد ذلك، وربما كان والديها أيضا أشقاء، حيث كان المصريون القدماء يمارسون الزواج بين أفراد العائلة المالكة وهي عادة أسلافهم المقدونيين الذين حكموا مصر منذ وفاة الإسكندر الأكبر، و لم تكن لدى "كليوباترا" النية فى الدخول فى علاقة زواج، أكثر من أن تشارك ولدا صغيرا في الحكم. تعلمت "كليوباترا"بصرامة، حيث كان يتم إعدادها لتكون ملكة فى المستقبل وكانت تولى اهتمامها لعثرات والدها، فضلا عن انتصاراته لتحافظ على ولايتها للعهد - التي تتطلب الولاء لروما- التى وصلت إليها عام 48 قبل الميلاد، بسرعة وموهبة وبراعة سيتذكرها التاريخ بها. فشلت محاولة الإطاحة ب"بطليموس"ومستشاريه، لكن "كليوباترا" التى كانت تبلغ من العمر 21 عاما كانت لديها قوة لإقحام نفسها في البلاط الملكي، وقدمت ذلك إلى "يوليوس قيصر" الذى استفاد من الاضطرابات السياسية المصرية، وثبت نفسه فى العاصمة. بينما يتوافق المنتقدون لها بصعوبة على أن "كليوباترا" تتمتع بجاذبية هائلة، فضلا عن الذكاء الخارق – تتحدث 9 لغات – فإنه لا توجد أى وثائق تشرح كيف استطاعت أن تقنع قيصر بدعم سيطرتها بدلا من جعل مصر مقاطعة تابعة لروما. ولا يوجد تفسير مقنع سياسيًا لبقائه معها فى الإسكندرية لشهور عدة فى الوقت الذى أخذت فيه إمبراطوريته في الذبول، ومن المعروف أنه عندما غادر قيصر كانت "كليوباترا" قد حملت منه. و قد كسبت كليوباترا بفتنتها، وكان هذا واضحا لكنها أصبحت لا تستطيع أن تجني أكثر من وراء ذلك. لتكتشف الحقائق التى تبقت بعد حوالى ألفين سنة، يجب أن تعتبر"شيف" أن المصادر غير المحدودة وغير المتناسقة من وجهة نظر علوم "الأنثروبولوجى" و"الأركولوجى" و"الفسيولوجى" التي تحدثت عن الحاكم قبل قرون من ظهور هذه التخصصات، استخدمت أدوات شبيهة لإعطاء أهمية للسلطة التي ورثتها. كانت "كليوباترا" تستطيع التنقل بيسر وسهولة بين مصطلحات اللغة معتمدة على الحملة الماهرة والصعبة لضمان ولاء الشعب من حيث الثقافة، والدين التى اعتنقتهما لتناسب ملكها النهائي وهو ما وصفته شيف بأنه "قدرة كليوباترا". حرف المنتقدون ل"كليوباترا" استخدامها للفلك، واعتبروه دليلا على التدهور وليس دليلا على فن الرؤية السياسية، منذ بداية حكمها ، كانت الملكة الشابة قد تلاعب بها الأميون الرعاع إلى حد كبير من خلال التحكم في تفاصيل العمل والإنتاج، الذى دعَّم ورسَّخ فكرة المعبودة عندها وقاعدة الحكم التى لا جدال فيها. وبعد أن نصبت نفسها مثل إيزيس، قدمت "كليوباترا" "قيصر" وسط هتاف الحشود المتلهفة على متن بارجة عملاقة، مليئة بالذهب والعاج، وتماثيل ذهبية تمتد إلى 18 قدما ولمدة 9 أسابيع لطالما قدمت "كليوباترا" نفسها وقرينها على أنهما إلهان مفعمان بالحياة في زيارة أرضية. بعد فترة حملها التى تبشر بالخير.. أعلنت "كليوباترا" ثمرة اقترانها بقيصر، وعندما ولد ابنها أسمته "قيصرون" ولإعادة صياغة الأسطورة التى ورثتها، ثبتت "قيصر الصغير" كشريك فى الحكم بعد اغتيال والده عام 44 قبل الميلاد. "قيصر" يتفق تماما مع دور شريك إيزيس وأوزوريس "الإله الذكر" الذي قُتل على يد الأعداء وتركوا وارثيه من الشباب الذكور، وكانت ملاحظة شيف الجافة أن مسيرة "إيزيس" سهَّلت الالتفاف حول القصة. امتلكت مصر الثروة؛ لتغطى الحروب الرومانية، وكانت "كليوباترا" تحتاج نفوذ روما للحفاظ على عرش مصر الذي أراد الرومان منذ وقت طويل الاستيلاء عليه. فى عام 41 قبل الميلاد اعتزم "مارك أنطونيو" أن يدرس وضع كليوباترا والولاء لقيصر عندما استدعاها إلى طرطوس. كانت "كليوباترا" تتهادى بثقة.. مثل "فينوس" آلهة الجمال وسط حاشية تليق بمعبودة الحب، والبارجة الفضية التي قدمت عليها كان شراعها أرجواني، وكانت القيثارات والمزامير، وكل شئ معطر بعدد من البخور لا يحصى، وعذارى جميلات يرتدين ملابس كالحوريات، وكيوبيد الجميلة..كل هذا يحيط بالملكة تحت قبة ذهبية. بهرجة الألوان التي غطت المكان..الصوت والرائحة فتنت الجماهير المحدقة، كما كان "مارك أنطونيو" مشدوها كالجماهير، وهو يتبع "كليوباترا" عائدا إلى الإسكندرية. مرة ثانية باستخدام "علم الأحياء" لتجسيد المصير، فقد أنجبت "كليوباترا" بدون إبطاء ل"أنطونيو" ولدا وبنتا ثم ولدا آخر. وظلت هي وحبيبها معا يقضيان أجمل الأيام خلال عقد من الزمان. الموت لم يشارك في ربطهما إلى أجل غير مسمى، لكن الانتحار واحدا بعد الآخر، ختم سيرتهما الذاتية، في مشهد درامي فائق ضمن قوة البقاء لقصة الحب بين المعاصرين لهم وبعد ذلك. لقد جعلت "كليوباترا" من نفسها أسطورة قبل أن يجعلها أي شخص آخر. أساء معاصرو "كليوباترا" الرومانيون فهم مواكب الأبهة التي نظمتها، وكان كُتاب السيرة الأوائل، منحازين، يكرهون الأجانب، لديهم دوافع سياسية، يتعمدون الإثارة أحيانا، ويكتبون لجمهور يتوقع أن يكون مبهورا بالمؤامرات والدسائس التي تعكس غطرستها. من المذهل أن تتأمل غابة من التحامل والشخصنة والدعاية، لقد توغلت "شيف" في إعادة تشكيل إمرأة أسلوبها هو الطموح والجرأة اللذان جعلا حياتها الشخصية جديرة بالكتابة. وبعد كل شيء فإن كتابة "ستايسي شيف" عن كليوباترا قد تميزت بالقوة.