على الرغم من أن مصطلح “أموال الهيليكوبتر” ربما يوحي للوهلة الأولى أنه يعني التمويل القائم على التهريب، إلا أنه في حقيقة الأمر ما هو إلا اختصار للسياسات التمويلية القائمة على طباعة البنكنوت من أجل تمويل الإنفاق الحكومي أو للوفاء باحتياجات المواطنين من الأموال، ولا تجد البنوك المركزية في هذه الدول أية مانع من طباعة هذه الأموال لهذا الغرض بحيث تهبط هذه الأموال على الأسواق المتعطشة وكأنها سقطت من طائرة هيليكوبتر. أول من فكر في مسألة طباعة النقود من أجل حل أزمة الاقتصاد المتراجع هو ميلتون فريدمان الذي يلقب بالأب الروحي للسياسات النقدية حينما قال متأملا عام 1969 أن البنوك المركزية في الدول لن تعجز عن تعزيز موقفها المالي طالما قامت بطباعة عملات نقدية لري الاقتصاد العطشان لهذه الأوراق. وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية في نهاية عام 2008، وعد بيرنانكي رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق، بفعل أي شيء لإنعاش الاقتصاد بما في ذلك إسقاط رزم البنكنوت من طائرات الهيليكوبتر على المدن الأمريكية. وقد طرحت الفكرة نفسها لاحقا عام 2000 عندما قال بين بيرنانكي في خطاب له بشأن كيفية إخراج الاقتصاد الياباني من خطر الانكماش أن الحل يكمن في فكرة فريدمان الخاصة بطباعة الأموال وقد أطلق عليه من وقتها ب”بين الهيليكوبتر”. ترجع فكرة تمويل الاستهلاك الخاص بطباعة النقود إلى مناظرات المدرسة النقدية في ستينيات القرن العشرين. حيث يزعم أنصار هذه الفكرة أن خيارات البنك المركزي لا تنفد أبدا عندما يتعلق الأمر بتحفيز الطلب الكلي وزيادة التضخم، شريطة أن يكون على استعداد للجوء إلى تدابير متطرفة. ولكن يبدو أن ما كان ذات يوم مجرد مفهوم نظري تحول الآن إلى احتمال ملموس. وعلى الرغم من أن سياسات طباعة البنكنوت كانت فيما مضى تثير ضحكات الاقتصاديين المخضرمين إلا أن الأمر لم يعد كما كان، حيث أن عددا كبيرا من الدول الأوروبية يعاني هو الأخر من تضاءل نمو الدخل القومي الخاص به في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية ولم تفلح محاولات البنوك المركزية في هذه الدول في دفع الاقتصاد إلى الأمام من خلال التقليل من معدلات الفائدة وطباعة آلاف الميارات من أجل شراء السندات الحكومية فيما يعرف ب”quantitative easing” أو سياسة تخفيف الكمية وهي السياسة التي باتت تعتبر متأخرة في توقيتها نوعا ما. المؤيدون لسياسة طباعة الأموال يرون أن قيام الحكومة بالتحفيز المالي لمواطنيها في صورة إنفاق حكومي أو تخفيض ضريبي أو دعم مباشر للمواطنين من خلال هذه الأموال الجديدة غير المستعارة أو المستدانة يمكن أن يمنح الاقتصاد المحلي دفعة. ويمكن اعتبار سياسات التخفيف الكمية ناجحة طالما أن البنك المركزي يشتري سندات الحكومة ويعيد ببيعها مرة أخرى في مرحلة ما ولكن بالفائدة، وهنا يقترح زعيم حزب العمال البريطاني جيريمي كوربين أن تقوم البنوك المركزية بتسليم أموال نقدية حديثة الطباعة إلى المواطنين بشكل مباشر. وتختلف هذه السياسة النقدية عن سياسة رفع الفوائد البنكية في أنها حوافز تمويلية يقوم البنك بتسديدها دونما زيادة أعباء الاقتراض بنوعيه وهو ما يقلل من خطورة زيادة أعباء اقتصادية جديدة ويضيف إلى قدرة الاقتصاد الكثير حال وقعت أزمة اقتصادية أو أي ظرف آخر من شأنه أن يجعل النظام البنكي ليس ذو ثقة ولا يمكن الاعتماد عليه. وصحيح أن الاقتراض يحقق نفس الفائدة ولكنه يضعفه حال رأى المقرض أنه يجب رفع الضرائب حتى يتمكن المدين من سداد ديونه وهي المشكلة التي تتغلب عليها سياسة طبع الأموال النقدية الجديدة. وفي ورقة بحثية منشورة عام 2014 توصلت الباحثة جوردي جالي في معهد جراي للأبحاث الاقتصادية ببرشلونة أن سياسة طباعة أموال الهيليكوبتر يكون لها تأثير قوي على الاقتصادات المتراجعة مع وجود أعراض جانبية تتمثل في معدلات ضئيلة من التضخم. ويشير تحليل حديث أجراه اقتصاديون في أحد البنوك الألمانية إلى أن أكثر الاقتصاديات ثراء في العالم استعانت بالبنوك المركزية في أوقات الطوارئ من أجل تمويلها خاصة إبان الحربين العالميتين. وقد أدت هذه السياسة في بعض من هذه الحالات إلى حدوث درجة من درجات التضخم. ولكن وعلى الرغم من ذلك فإن طباعة الأوراق النقدية من أجل دعم اقتصاد متراجع هو بالتأكيد أقل خطورة من طباعة أموال من أجل تمويل دولة بأكملها تعاني من الحرب كما كان الحال في الحرب العالمية الثانية خاصة وأن البنوك المركزية في هذه التوقيت لم تكن تخضع لسيطرة الدولة بشكل كلي. وتكمن المشكلة الحقيقية في سياسة أموال الهيليكوبتر هي أنها مجرد حل فني لمشكلة سياسية. فالاقتصاد الأوروبي المتراجع هو أسوأ حالا من نظيره في الولاياتالمتحدة وبريطانيا وذلك لأن البنك المركزي الأوروبي لجأ إلى هذه السياسة في وقت متأخر نظرا لأن القوانين الأوروبية تحرم قيام البنوك المركزية بتمويل الحكومات. ففي العام الماضي فقط بدأ البنك المركزي الأوروبي بالسماح للبنوك بشراء السندات الحكومية في حالات الضرورة القصوى، ولكن حتى يمكن للدول الأوروبية أن تنتهج سياسة أموال الهيليكوبتر فالأمر يتطلب بعض التعديلات في مواثيق الاتحاد الأوروبي، لكن لو تركت صلاحيات تطبيق مثل هذه السياسات للبنك المركزي الأوروبي منذ البداية لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه الآن. وعلى الرغم من أن دول أوروبية عدة نجحت في الاقتراض بدون نفقات لمدد سداد تصل إلى 30 عاما وربما أكثر من ذلك بفضل البنك المركزي الأوروبي، إلا أن الحكومات رغم كل شئ ما زالت تعاني من العجز وبالتالي يكمن الحل في طباعة أموال نقدية ولكن ما يعوق تنفيذ هذا الحل هو عدم وجود اتفاق سياسي ينظم الاستعانة بهذه السياسة وكيفية تنفيذها مع الأخذ في الاعتبار المخاوف من الأعراض الجانبية لهذه السياسة مثل التضخم والمجازفة الأخلاقية. ويبدو من الضروري أن تسعى الحكومات إلى وضع إطار عمل لتنظيم استخدام سياسة أموال الهيليكوبتر تحسبا لوقوع كارثة اقتصادية جديدة لأنه حال حدوث ذلك لن يكون أمام البنك المركزي الأوروبي كثير من الوقت لتقليل معدلات الفائدة. والدعم النقدي المباشر للأفراد من شأنه أن يجعلهم أكثر قدرة على استيعاب الصدمات الاقتصادية ولكن يشترط توافر الإرادة أولا لتنفيذ هذا الأمر. ولكن وعلى الرغم من كل ما سبق يقف المعسكر المضاد لهذه السياسات على الجهة الأخرى بحجج قوية تدعم موقفه أيضا من بينها أن الانكماش في اقتصاديات اليابان والدول الأوروبية ليس كما كان في ثلاثينيات القرن العشرين، كما أن الأسر والمستهلكين بصفة عامة الذين يعانون من الديون المتراكمة منذ وقت الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 بدأت الآن في التعافي وبدأ قوتها الشرائية تعود إلى سابق عهدها خاصة في ظل انهيار أسعار النفط والسلع الأساسية. وفي الوقت الذي يقول فيه المؤيدون لسياسات أموال الهيليكوبتر أن انهيار الأسعار العالمية قد تسبب في انخفاض أرباحها بصورة تسببت فيما يصفونه بانكماش الاقتصاد إلا أن المعسكر الأخر يؤكد أن انهيار الأسعار أدى إلى انخفاض تكاليف التشغيل ومدخلات الإنتاج وبالتالي حققت أرباح أكبر بالكثير عما سبق. المشكلة في سياسات أموال الهيليكوبتر أيضا تكمن في أنها يمكن ان تشكل بديلا أكثر سهولة ولكن أكثر ضررا بالنسب لصناع السياسات من أجل تمويل الاستهلاك وصرف النظر عن بذل الجهد اللازم لتحقيق عمليات النمو المرغوبة ومعالجة ضعف الآداء الاقتصادي. وقد يتسبب ارتفاع الكتلة النقدية المتداولة إلى ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع في أسعار المواد الاستهلاكية وأولى الفئات المتضررة بهذا الارتفاع هم أصحاب الدخول المحدودة، فضلاً عن وجود كتلة نقدية كبيرة متداولة في السوق وقد تكون هذه الكتلة محصورة بين أيدي مجموعة صغيرة لا تشكل إلا نسبة ضئيلة جدا من السكان، مما يعكس آثاره الاقتصادية السلبية على المستويات المعيشية للسكان.