عندما تبلغ القيمة السوقية لشركة 495 مليار دولار فيما لا تتجاوز اصولها المادية 14 مليار دولار لا غير فإن هذا لا يعنى سوى شىء واحد هو ان الرأسمال الفعلى لهذه الشركة يكمن فى سمعتها، وعندما تتضرر هذه السمعة ضررا بالغا لأى سبب فإن مستقبل الشركة كله يصبح فى مهب الريح، تماما كما يحدث لشركة صناعية ضخمة تصحو ذات يوم على حريق ضخم يأتى على مصانعها، او كما يحدث لشركة عقارية كبرى يأتى زلزال على مبانيها فيسويها بالارض، حينئذ تنهار الشركة بانهيار اصولها وتصبح قيد الافلاس. السقوط جاء مروعا، ومع ذلك فإن شبح الافلاس لشركة التواصل الاجتماعى العملاقة Facebook يظل بعيد الاحتمال على الرغم من كل الانتقادات والهجوم الذى تتعرض له جراء الكشف عن فضيحة تسريب بيانات عملائها «مستخدميها» لشركة بريطانية عملت لصالح حملة ترامب خلال الانتخابات الاخيرة. ومنذ الكشف عن الفضيحة اطلقت Facebook حملة علاقات عامة ضخمة تكلفت ملايين الدولارات لتنقية سمعة الشركة مما شابها من شكوك وما اصابها من اتهامات جوهرها هو الاستخدام التجارى لمعلومات تخص مستخدميها حسنى النية لتحقيق عوائد وارباح بعشرات ومئات المليارات من الدولارات، ولما كانت اغلب التقديرات تشير الى تفوق الشاب العبقرى مارك زوكيربرج الرئيس التنفيذى ومخترع Facebook على اعضاء الكونجرس الامريكى خلال جلستى الاستماع اللتين عقدتا لبحث الامر، فإن الشكوك ربما تمتد للمشرعين الامريكيين الذين ساعدا الرجل والشركة لاجتياز الاستجواب بنجاح متقبلين اعتذاراته عما جرى دون ان يدين نفسه او الشركة. زوكيربرج « 33 عاما» راوغ المشرعين بطريقة بدائية بشأن نيته اتخاذ إجراءات من شأنها التخلى عن الاستخدام التجارى لمعلومات المستخدمين. وليس هناك من دليل على هذا التواطؤ اكثر من رفض زوكيربرج تكرار الاستجواب نفسه امام مجلس العموم البريطانى او البرلمان الاوروبى. الانتقادات طالت ايضا شركات تكنولوجيا المعلومات مثل جوجول وامازون وابل وغيرها فكلها تملك شبكة هائلة من معلومات المستخدمين تقوم بتوظيفها لاغراض تجارية، وجاء اشد الانتقادات من اوروبا سواء من الحكومات او الاحزاب وكذلك الجمعيات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدنى. الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون وجه هجوما لاذعا لشركات المعلومات العملاقة معتبرا انها باتت خارجة على السيطرة وهدد بدفعها نحو الاحتكار ما لم يتم تقسيمها على غرار ما حدث فى شركات النفط العملاقة لإنهاء الاحتكار فى هذا النشاط. الإفلاس بعيد، والتقسيم ليس حلا لأن تفكيك الاحتكارات فى الاقتصاد التقليدى يختلف عن تلك التى تعتمد على الخيال والابتكار واطلاق التطبيقات فى الفضاء الالكترونى ليخلق حاجات جديدة وينفع الناس، وربما الافضل هنا والاكثر عملية هو دفع المجتمعات أبناءها لابتكار محركات بحث وبرامج تواصل «وطنية». الصين قطعت شوطا طويلا فى هذا المجال واصبح لها محرك البحث الخاص بها، وقد سمعت وزير الاتصالات يتحدث عن Facebook مصرى قيد الانشاء وهذا جيد بلا شك. تنويع محركات البحث وبرامج التواصل الاجتماعى ولا اقول «توطينها» هو الحل العملى ليس فقط لمكافحة الاحتكار فى هذا المجال ولكن ايضا لاضفاء الصفة الوطنية والخصوصية المجتمعية لهذه الاشكال الجديدة من التواصل الانسانى الذى لم يعد هناك بديل منه فى اى مكان حول العالم. ولا يقل اهمية ان «يبتكر» العالم هيئة دولية للرقابة على هذه الشركات سواء من حيث الممارسة وكذلك من حيث السمعة والتصرف فيما تمتلكه من بيانات وان تكون لهذه الهيئة هيئات وطنية فى كل دولة على غرار علاقة صندوق النقد الدولى بالبنوك المركزية، ولا يعقل ان تكون لكرة القدم هيئة دولية «الفيفا» تتولى تنظيم امور اللعبة مع الاتحادات الوطنية ولا يكون للفضاء الالكترونى بما فيه الآن وبما سنراه فى المستقبل هيئات دولية ومحلية تراقبه وتدير شئونه لصالح المجتمعات، ولصالح الناس. زوكيربرج قال امام لجنتى الكونجرس ان كل الانترنت مراقب، وهذه حقيقة يعلمها المتخصصون ويعلمون كذلك ان هيئة امريكية هى التى تدير وترى وتتابع كل ما يجرى على الشبكة العنكبوتية، ولكن هذه الهيئة غير ملزمة بتطبيق نظم الحوكمة فى عملها ولا فى إشراك الاخرين فى كل ما لديها من حقائق ومعلومات، وهذا وضع يتعين تجاوزه لضمان الاستخدام الآمن والنزيه لفعاليات الفضاء الالكترونى تجاريا وأمنيا.