أهم ما يميز أحاديث الرئيس السيسى تلك النبرة الصادقة التى تنطق بها تعبيراته والمباشرة فى عرض افكاره بصورة تجعل حديثه اكثر قربا من الناس العاديين فضلا عن نيل ثقة محدثه مهما كانت ثقافته. ومهما كانت جنسيته. ويوم الاربعاء الماضى جاء خطاب الرئيس كالمعتاد صادقا ومباشرا، وفوق ذلك أكثر عمقا مما جعل تأثيره بالغا على المستمعين، وبعضهم لا يشاركه الرأى فى قناعاته، وان كان الانصاف يقتضى من الجميع ان يثمن للرجل نزاهته وأسلوبه العلمى فى اتخاذ القرارات، أما القرارات نفسها فهى كأى شأن سياسى يمكن الاختلاف عليها فهذه سنن كونية، وقد سارع السيسى خلال خطاب الاربعاء للاعتراف بهذه الحقيقة، مؤكدا أن أحدا لا يمكن محاسبته على افكاره ومعتقداته السياسية، ولكن المشكلة تكمن فى دس الاكاذيب والافتراء بقصد الوقيعة وتقسيم الناس فى وقت تعانى فيه الامة والمنطقة من اعاصير وصراعات تستهدف تقسيم الشعوب والاوطان. وفيما يتعلق بالجدل حول جزيرتى تيران وصنافير استدرك الرئيس، مشيرا إلى أن غيرة الرافضين للاتفاق اسعدته كمصرى تربى على ان يدفع حياته مقابل الدفاع عن كل حبة رمل على ارض مصر. غير ان الاستسلام للمشاعر والمزايدة على الحقائق هى ما يرفضه، متهما الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعى بوضوح بإشاعة اجواء البلبلة والمساهمة فى تعقيد الأزمات التى لم تقتصر على اتفاق رد تيران وصنافير للسعودية، وإنما امتدت آثارها السلبية لمعالجات سد النهضة وقضية الباحث الايطالى وغيرها.. وهنا مربط الفرس. الكل يعلم ان الاعلام فى أزمة وهى ازمة ممتدة وتتعدد مشاهدها وآثارها، وهى أزمة تعود لما قبل ثورة يناير وما أحدثته من فوران، وربما كانت بداية انطلاقها مع تزايد نفوذ الأمن والمال السياسى فى الصحف والفضائيات وما تلا ذلك من تداعيات. اما مواقع التواصل الاجتماعى فمنذ نشأتها قبل سنوات مثلت تحديا هائلا امام وسائل الاعلام ليس فى مصر وحدها وإنما فى أنحاء العالم، فقد اصبحت بديلا سهلا لتبادل المعلومات، ومن ثم استغلها اصحاب المصالح فى ترويج دعايتهم بصورة اسرع واقل تكلفة، وان كانت اقل صدقية. المصداقية هى السلاح الذى تدثرت به وسائل الاعلام الغربية فى مكافحتها لغزو شبكات التواصل الاجتماعى لصناعة الرأى والخبر، ومازالت المعركة مستمرة. اما عندنا فإن تراجع المصداقية اثر بشدة على كفاءة العمل الاعلامى مما ادى الى انصراف بعض الناس خاصة من الشباب عن متابعة الصحف والبرامج الحوارية واخذت شرائح عديدة تلوذ بشبكات التواصل الاجتماعى لمعرفة الاخبار.. والآراء بشأن ما يجرى. هذه «الدربكة» خلقت تحديا اضافيا امام كل من له مصلحة فى استقرار العمل الاعلامى، وفى مقدمتهم الدولة بأجهزتها المتعددة التى وجدت نفسها إزاء واقع جديد يتم خلاله استباحة كل المحرمات فى السياسة والاقتصاد عبر التناول غير المسئول لقضايا العمل الوطنى على غرار الامثلة التى طرحها الرئيس فى خطابه الاخير. وقد كان يمكن تجنب كثير من هذا الاداء غير المسئول لو تطورت القوانين المنظمة لشئون الاعلام لتواجه بصرامة هذه التجاوزات والمخالفات اسوة بما هو متبع فى الدول الاخرى، وقد كان التأخير غير المبرر فى اصدار التشريعات الاعلامية، رغم الشكوك الجدية فى قدرتها على تنظيم هذا المرفق الهام، سببا اساسيا فى استشراء هذه المخاطر التى تذمر منها الرئيس فى خطابه. ومع ذلك فإنه من التعسف إلقاء كل المسئولية بشأن هذه التجاوزات على عاتق الاعلام وحده، وانما تجب اعادة النظر فى ممارسة الحكومة ومؤسسات الدولة لطريقتها فى طرح مختلف القضايا أمام الرأى العام بطريقة عصرية تعكس توجهاتها وتصون علاقتنا بالدول الاخرى، وقبل كل ذلك عرض مجهوداتها فى الاصلاح والتنمية بطريقة صحيحة وبأسلوب يشعر به المواطن.. وهذا ما لا يحدث، أو لا يحدث بما فيه الكفاية. الرئيس السيسى أكد فى خطابه مجددا ان المشروعات التى يجرى تنفيذها خلال العامين الماضيين تعادل ما جرى انجازه فى 20 عاما، وهذه حقيقة معروفة لكل من له صلة وبصفة خاصة فى سلسلة المشروعات القومية التى بدأت بتوسيع قناة السويس واقامة المنطقة التنموية حولها ولا تنتهى بمشروع استصلاح ال 1.5 مليون فدان. ومع ذلك فإن الاعلام عن هذه الانجازات لا يتم بصورة صحيحة بدليل انها لم تصل الى كثير من المواطنين، فالاعلام لا يعنى «طنطنة »كما يلجأ البعض ربما تزيدا أو قلة حيلة، وانما هو عمل مخطط وممنهج يستهدف الاقناع فى النهاية، وهو علم بذاته مستقل عن علوم الاعلام يتعلق بالعلاقات العامة. العلاقات العامة وفق ابسط التعريفات هى ذلك النشاط الذى تقوم به الادارة للحصول على ثقة الجمهور وتعريفه بسياساتها عن طريق شرح المعلومات المتعلقة بها من خلال وسائل الاتصال المناسبة. وفى العقود الاخيرة تطورت علوم العلاقات العامة وتعقدت بصورة جوهرية واصبحت جزءا من الدراسات السياسية بجانب اهميتها للمؤسسات الاقتصادية وغير الاقتصادية. ومن ثم فإنه يجب الاعتراف بمحدودية الدور الذى تمارسه الدولة ومؤسساتها على صعيد العلاقات العامة «الحقيقية» بدليل هذه الشكوى الدائمة من قصور الفهم والاستيعاب لما تقوم به الحكومة من جهود فضلا عن الخطر الاكبر وهو تلك «الشوشرة» التى تظهر فى وسائل الاعلام وتنعكس سلبا على قضايا حساسة من نوع الباحث الايطالى وسد النهضة، واخيرا الاتفاق المصرى السعودى بشأن الجزر. أستطيع القول ان الشرح الذى قام به الرئيس يوم الاربعاء الماضى بشأن جزيرتى تيران وصنافير أسهم بشكل ايجابى فى تحسين فهم الناس لطبيعة القضية وجذورها التاريخية وابعادها السياسية والجغرافية، وأدى على نحو كبير لوأد الفتنة التى اصطنعها البعض حول القضية لتجييش المشاعر وتوظيفها فى اطار الصراع السياسى ضد الدولة ولاشك ان هذه الممارسات تمثل جريمة اخلاقية ووطنية، ولكن فى مناخ التصيد والتربص الذى نعيش فيه فقد كان على الدولة ان تتحسب لمختلف ردود الافعال، وان تبادر فى تحسين الصورة وشرح الموقف بشأن مفاوضات رد الجزر وتصميم برنامج صحى وصادق للعلاقات العامة يضمن الرد النزيه على افتراءات المزايدين ويضمن عدم استغلال هذا الاجراء السياسى من المزايدين والمتربصين.. وكذلك كان ينبغى التعامل مع تناول الرأى العام لأزمتى ريجينى وسد النهضة وغيرهما من الأزمات التى تواجهنا وتواجه الادارة السياسية فى كل دولة. وقد كان مذهلا بالنسبة لى على سبيل المثال استمرار صعود الدولار فى السوق غير الرسمية على الرغم من الاجراءات «الفنية» غير المسبوقة التى اتخذها البنك المركزى وكان من بينها خفض قيمة الجنيه بنحو 41% دفعة واحدة. من الناحية الاقتصادية كانت هذه الاجراءات كافية لتوحيد اسعار الصرف غير ان عدم اقتران هذه الاجراءات ببرنامج علاقات عامة مقنع ادى إلى إجهاض نتائج هذا الخفض ولا يزال الدولار يحلق عاليا فى السوق السوداء. زيارة العاهل السعودى نفسها الى القاهرة والاتفاقات التى جرى توقيعها كان من شأنها ان تدعم موقف الجنيه غير ان ضعف الاستثمار السياسى والاعلامى للزيارة حد من النتائج المتوقعة على صعيد اسواق الصرف فلم نر تحسنا يذكر على صعيد تعاملات السوق غير الرسمية. القضية هى اذن فى جوهرها ثقة، والثقة فى ايامنا هذه لا تأتى بشكل تلقائى لمجرد حدوث خطوات ايجابية على الارض، وهى لن تأتى كما كانت تأتى سابقا عندما يقف زعيم كجمال عبد الناصر ليلقى خطبة حماسية تتزلزل لها الشعوب فى مصر والامة العربية، ولكن الثقة فى زماننا يجرى تصنيعها عبر مجهودات مبتكرة ومتعددة على الحكومة ان تعيها وتتقنها لايصال عملها للناس. جوائز الثقة لا تقف على الجوانب المعنوية فقط ولكن لها اثرها الذى لا ينكر على الارض، فالمستثمرون عندما يصبحون اكثر ثقة سوف تتدفق استثماراتهم ويشرعون فى تنفيذ المشروعات الجديدة والتوسعات المؤجلة، والباحثون عن عمل سوف يتعاملون بصورة اكثر ايجابية مع اخبار المشروعات القومية لأنهم يعرفون ان تنفيذها سيسهم فى ايجاد عمل لهم، وكذلك مع مبادرة المشروعات الصغيرة، كما ان الثقة سوف تؤدى الى ابعاد شرائح عديدة من الناس عن اكتناز الدولار وبالتالى تخفيف الطلب عليه، مما يعزز الثقة بالجنيه ويحد من أزمة النقد الاجنبي. لقد كان خطاب السيسى الاخير عظيما فى تأثيره على المصريين لأنه اتسم بالصدق والمنطق، وما نحتاج إليه الان ان تشرع الحكومة فى السير وفق هذ التوجه بصورة علمية ومفصلة ومستمرة لاكتساب الثقة .. التى هى أحوج ما نكون إليها الآن.