فى أغسطس الماضى انتقل جناح نادى برشلونة الأسبانى نيمار دا سيلفا إلى فريق باريس سان جرمان الفرنسى مقابل نصف تريليون دولار فى صفقة هى الأغلى فى تاريخ صناعة كرة القدم حتى إنها سميت بأم الصفقات. وتتضمن الصفقة تحمل النادى الفرنسى قيمة الشرط الجزائى لفسخ تعاقد اللاعب البرازيلى عقده مع النادى الأسبانى وقيمته 263 مليون دولار. الصفقة أثارت لغطا كثيرا وقتها على الصعيدين الاقتصادى والأخلاقى حيث اتهم الخبراء قطر، التى تمتلك صندوقا سياديا تابعا لها النادى الفرنسى، بأنها تعبث بصناعة كرة القدم الأوروبية عبر تضخيم قيمة انتقال اللاعبين بين الأندية بما يهدد اقتصاديات اللعبة ومستقبلها. ناصر الخليفى الرئيس القطرى لنادى باريس سان جرمان برر وقتها ضخامة الصفقة، مؤكدا أن عوائد شراء اللاعب، بعيدا عن مهاراته، ستفوق ما دفع فيه عبر إبرام سلسلة من التعاقدات الإعلانية لصالح الفريق وكذلك حصيلة بيع قميص نيمار وبوسترات وأشياء أخرى ستؤدى فى النهاية إلى تعويض ما دفع فيه من رقم ضخم .. وغير مسبوق. وكما توقع خبراء اللعبة فقد قفزت أسعار بيع اللاعبين فى أوروبا والصين والولايات المتحدة بنسب كبيرة وعقدت عدة صفقات بما يقترب من 200 مليون دولار خلال الشهور المنقضية، وعرض نادى ريال مدريد شراء لاعبنا المتألق فى نادى ليفربول محمد صلاح مقابل 100 مليون يورو إلا أن النادى الإنجليزى يصر على عدم تخليه عن صلاح بأقل من 120 مليون يورو، رغم أنه اشتراه قبل عدة شهور من نادى روما الإيطالى بنحو 40 مليون يورو فقط. وقد أصبح مفهوما أن لعبة كرة القدم قد تحولت من نشاط اجتماعى ورياضى إلى صناعة متكاملة بما تدره من أرباح عالية وبما تكون لها من إيرادات متنوعة فى مقدمتها الإعلانات التى تلهث وراء المستهلكين أينما كانوا، وبعد أن أصبح مجرد مشاهدة المباريات فى الملعب وعبر التلفزيون يتطلب مقابلا ماديا يزداد ارتفاعا يوما بعد يوم. وقد جذبت الأرباح الضخمة للصناعة العديد من المليارديرات حول العالم وأثرياء الخليج الذين تكالبوا على شراء الأندية التاريخية فى إنجلترا وفرنسا وبقية الدول الأوروبية وتغير شكل الدوريات وتغيرت معها سبل متابعة المباريات حول العالم، وأصبحت كرة القدم نشاطا تجاريا بامتياز. وكما يحدث عادة فقد انتقلت عدوى تجارة كرة القدم إلى الأندية المصرية التى مازالت الصناعة بها تخطو خطواتها الأولى، وبرغم عدم وجود الجمهور فى المباريات وبرغم ضآلة وعشوائية الإيرادات الأخرى للعبة فإن عدوى ارتفاع أسعار اللاعبين انتقلت بسرعة وبطريقة غير مسئولة إلى الدورى المحلى، وفضلا عن الانتقال المريب للاعبى المنتخب للعب فى الأندية السعودية، فإن بيع اللاعبين بين الأندية وبعضها البعض أصبح مبالغا فيه وفقا لخبراء اللعبة أنفسهم. هذه المبالغة ترجع فى جزء منها إلى الشراسة فى المنافسة على اللاعبين بين الأهلى والزمالك وتعود فى جانبها الأكبر إلى العشوائية التى أصابت اقتصاديات اللعبة محليا وبينها أسعار اللاعبين. وقد رأينا انتقال اللاعب صلاح محسن من نادى إنبى إلى الأهلى بقيمة 35 مليون جنيه، وكذلك انتقال محمد عنتر صانع ألعاب الفريق الأسيوطى إلى الزمالك بقيمة 15 مليون جنيه، وكان النادى الأسيوطى قد اشترى عنتر من أحد مراكز الشباب قبل عامين بنحو 15 ألف جنيه لا غير !. فى مصر يحذر الخبراء المعنيون بالتعاقدات من مخاطر تضخيم أسعار اللاعبين على اقتصاديات اللعبة فى المستقبل القريب فى ظل ضعف موارد أندية الدورى وعشوائية الأداء المالى والاقتصادى لصناعة كرة القدم برمتها فى مصر.. وفى الدول العربية بصفة عامة. المشكلة محليا بالغة الخطورة ولكنها فى الواقع مشكلة دولية على الأقل فى جوانبها الاقتصادية، فحجم التطورات المتلاحقة التى تشهدها اقتصاديات كرة القدم حول العالم تفوق قدرة القوانين والقواعد المنظمة للعبة على التحكم فى مسارها الاقتصادى والأخلاقى، وبالتأكيد فإن غياب أو النقص الشديد فى الأرضية النظرية التى تحدد وتوضح قواعد ومعايير وحتى الابتكارات الممكنة أو المطلوبة لتطوير هذه الصناعة على أسس علمية مدروسة وآمنة كل هذا يجعل سوق كرة القدم عشوائيا بامتياز تتحكم فيه المضاربات وأهواء المستثمرين وألعابهم المالية بأكثر مما ينبغى؟!. اقتصاديات كرة القدم باتت تحتاج إلى دراسات جادة وتحتاج من الجامعات إلى الانتباه إليها وعقد برامج دراسية لتوضيحها ليس فى كليات التربية الرياضية فحسب ولكن أيضا فى كليات الاقتصاد والإدارة والأعمال، فهى من الناحية المالية نشاط جامح وسريع التطور لا يستند إلى إطار مرجعى علمى أسوة بالأنشطة الاقتصادية المعروفة. أما أثر هذه العشوائية فى الإدارة والإنفاق والإيرادات على الجوانب الرياضية والأخلاقية فهذه قصة أخرى .. قصة كبيرة جدا.