الدكتور محمود محيى الدين نائب رئيس البنك الدولى قال الأسبوع الماضى: إن تراجع الطبقة المتوسطة أصبح ظاهرة عالمية وهذا قول صحيح، وباستثناء الصين والهند وعدد محدود من الدول فى آسيا وإفريقيا فإن دول العالم تشهد منذ عام 2008 تراجعا مقلقا فى حجم الطبقات المتوسطة ولاسيما فى أوروبا، وربما كان هذا التراجع فى مستوى معيشة الطبقات المتوسطة واحدا من أهم أسباب القلق الاجتماعى فى الغرب واتجاه الملايين للتصويت لصالح التيارات اليمينية المتطرفة والصعود المنتظم للأحزاب الفاشية، بجانب الأسباب الأخرى، وهو مشهد يماثل ما حدث فى أوروبا واليابان عقب الحرب العالمية الأولى وأسفر عن نهاية مأساوية باندلاع الحرب الثانية بما حملته من نتائج رهيبة على الصعيدين الإنسانى والاقتصادى. انحسار الطبقة المتوسطة يمثل فى ذاته فشلا لأداء البنك الدولى الذى أنشئ عام 1949 وفقا لمؤتمر برايتون وودز الذى خطط الاقتصاد الدولى بعد الحرب العالمية الثانية، والذى أوكل للبنك الدولى مهمة مكافحة الفقر ومساعدة الدول على تبنى سياسات تنموية ناجحة لتعويض الإنسانية عن المعاناة التى شهدتها خلال الحرب، والاضطرابات السياسية والاجتماعية التى سبقتها. فى مصر لدينا أسبابنا الخاصة التى أدت إلى تراجع مستويات المعيشة للطبقات الخاصة، ويمكن القول إجمالا إن بطء عملية التنمية لعقود مصحوبا بزيادة سكانية خارجة عن السيطرة يمثل السبب الأساسى لتراجع مستويات المعيشة بصفة عامة، وقد ازدادت حدة المشكلة مع التراجع المنتظم فى معدلات النمو بتأثير الأزمة المالية العالمية التى انفجرت فى عام 2008، ثم بعد ذلك تأثير الاضطرابات التى شهدتها البلاد عقب ثورة 25 يناير حيث تراجع معدل النمو إلى أقل من 2% فى عام 2012 وكان معدل النمو الوسطى منذ 2011 وحتى 2016 فى حدود 2.5% وهى نسبة بالكاد تعادل معدل النمو السكانى. وقد أدت هذه السلسلة من التراجعات المنتظمة فى النمو الاقتصادى إلى انتشار الفقر من نحو 22% فى 2010 ليقترب الآن من 40% من السكان طبقا لبعض الإحصاءات غير الرسمية، وغنى عن البيان القول بأن الارتفاع فى مستويات الفقر مبعثه انتقال شرائح من الطبقة المتوسطة إلى المستويات الأدنى ودخولها لمنطقة الطبقات الفقيرة «ثلاثة ملايين مصرى من ذوى المعاشات انزلق أغلبهم إلى ما دون خط الفقر باستثناء الذين امتلكوا بعض الأصول أو المدخرات التى تعينهم على تكاليف الحياة الجديدة». ومما زاد الأمور تعقيدا أمام الطبقات المتوسطة انخراط الحكومة فى برنامج صعب للإصلاح المالى والنقدى قبل نهاية 2016 بعد أن أصبحت الإجراءات الصعبة ضرورة حتمية، وكان من شأن التخلى عن سياسات التسعير الإدارى للجنيه والرفع الجزئى بخطوات متسارعة للدعم عن الكهرباء والوقود والعديد من الخدمات أن ترتفع تكاليف المعيشة بصورة غير مسبوقة وسط معدلات تضخم تتجاوز30%. كل المصريين يشاركون فى تحمل تكاليف الإصلاح غير أن الطبقات المتوسطة تتحمل العبء الأكبر، وفضلا عن ارتفاع تكلفة الغذاء والوقود والكهرباء والانتقالات لهذه الشرائح، فإن الزيادة المرهقة فى تكاليف التعليم والرعاية الصحية اصطدمت بشدة بسلوكيات الإنفاق لشرائح الطبقة المتوسطة وطموحاتها التقليدية فى إلحاق أولادها بالمدارس المميزة وتلقى رعاية صحية بواسطة القطاع الخاص، دعك من اضطرار الكثيرين للتخلى عن أنماط الاستهلاك والترفيه الذى اعتادات الطبقات المتوسطة على ممارستها عبر الأجيال. من المفهوم بالطبع أن زوال هذا الوضع المؤلم ليس له سوى مخرج واحد هو زيادة ملموسة ومنتظمة فى معدل النمو عبر إجراء زيادة حقيقية فى الإنتاج والصادرات السلعية والخدمية، وهذا ما نتوقع حدوثه وتتوقعه أيضا المؤسسات المالية. ولكن المشكلة تكمن فى الفترة الزمنية التى يستغرقها تحقيق هذا الهدف، فمن الممكن أن تظهر ثمار الإصلاح خلال عامين ومن الممكن أيضا أن ننتظر 10 أعوام، لا قدر الله، وهنا سنحتاج إلى التغلب على كثير من معوقات التنمية وشفافية فى السياسات والإجراءات والتخلص من كثير من الأمراض المجتمعية كالفساد والتراخى وضعف الإنتاج. وقبل كل ذلك وبعده إدارة ذات كفاءة قادرة على تعبئة المدخرات وجذب الاستثمارات بأنواعها لتمويل مختلف المشروعات.. وهذا هو التحدى الراهن بعد إتمام الجزء الأكبر من الإصلاحات المالية والنقدية. الطبقات الوسطى حول العالم تنحسر ولكن الحكومات تتنبه بشدة لمخاطر هذا الانحسار وتعمل على معالجته خوفا من تداعياته الكارثية، ولحسن الحظ فإن القضية هنا أسهل وأيسر، فتحقيق معدل نمو ثابت بين 7 و10 % لعدة سنوات قليلة يؤدى إلى استرداد الشعب وطبقاته المتوسطة كثيرا من عافيتها، وهو أمر ميسر وفى متناول اليد لو أحسن فقط استغلال الموقع الجغرافى لبلادنا، فضلا عن مواردها البشرية والطبيعية.