تعيش مصر فى السنوات القريبة الأخيرة مرحلة تتسم بالصحوة والنشاط فى أغلب الميادين من أجل اللحاق بمستوى من (العيش) يليق بالمصريين، بعد أن حققوا قدرا معتبرا من (الحرية) فى الطريق للهدف الأسمى من (الكرامة). ويدور حوار مجتمعى واسع حول الشكل الذى ترتضيه الأغلبية لنوع الحياة. خاصة فى الجوانب الاقتصادية التى تمس الملكية وعدالة توزيع الدخل، وقدر إسهام كل من الدولة وقطاعها العام من جانب، والقطاع الخاص من جانب آخر فى البناء الاقتصادى، سواء من حيث الملكية أو توزيع الدخول. غير أن الحوار القائم يتطلب الوصول إلى نقاط التقاء يتفق عليها الجميع، لأن الجارى حاليا هو حوار فيه خليط من الأمل فى جذب استثمارات كبيرة تسهم فى طفرات النمو، وفيه دعوة للقطاع الخاص المصرى والعربى والأجنبى ليقوم بدور أكبر، بينما يعوق ذلك فكر مازال يعيش فى أحلام ملكية الدولة والقطاع العام والحصول على (أرباح افتراضية) من مؤسسات خاسرة أو لا تعمل من الأصل. التعلم من التجارب عاشت مصر تجارب تنمية اقتصادية عديدة، انتقلت فيها بين عدة نظم، من نظام الدولة المحتكرة لكل أدوات الإنتاج وجعل أغلب الناس أجراء. وجاء بهذا النظام محمد على باشا، ثم طبق بعضا منه فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر. ومررنا بتجربة الاقتصاد الحر التى بدأت فى عهد إسماعيل باشا لكنه أتاح المجال للأجانب أكثر من المصريين. ثم جاءت النهضة الاقتصادية الوطنية المصرية مع جيل طلعت باشا حرب، لتؤسس قاعدة وطنية للاقتصاد يتملكها المصريون، واستمر ذلك حتى نهاية حكم الملكية، وأيضا خلال السنوات العشر الأولى من ثورة يوليو 1952 التى أقامت السد العالى وأممت قناة السويس وتبنت مشروع السبعمائة مصنع وترجمة الألف كتاب وأتاحت التعليم لكل الطبقات وانحازت للطبقة العاملة. لكن البعض لم يدرك أن رأس المال ليس وحده المشكلة الأكثر إلحاحا، فالمشكلة هى فى إدارة رأس المال والموارد والممتلكات إدارة رشيدة، فأحمد باشا عبود وأحمد باشا فرغلى، وعبداللطيف أبو رجيلة، وعثمان أحمد عثمان، وسيد ياسين، وأحمد الطويل، وأحمد الطرابيشى، وعائلة إخوان جعفر لدور السينما، والفنان محمد فوزى، ومئات غيرهم، صودرت أملاكهم (أو بالأحرى سرقناها) فخسرنا بأكثر مما خسروا. فقد خسروا المال، وخسرنا الرجال والإدارة الممتازة للأملاك، وأغلبهم بدأ من جديد وكون ثروات جديدة فى الخارج بأضعاف ما صادرناه من أموالهم فى الداخل. يقول عبد اللطيف أبو رجيلة فى مذكراته: «وأنا فى غمرة ملايينى، أذكر أصل رأسمالى، فقد بدأت بأربعة وثلاثين جنيها أنبتت أضعافها، كأنها الحبة المباركة التى وصفها القرآن الكريم بأنها أنبتت سبع سنابل، فى كل سنبلة مئة حبة، وبعد أن غادر أبو رجيلة مصر فى الستينيات عاد فى السبعينيات ومات مغموما. وكانت بداية النهاية لتجربة الاقتصاد الحر عندما أصيبت مصر بأول نكسة وطنية وفق تسمية الرئيس جمال عبد الناصر، وذلك بانفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة (1961) ووقتها اتجهت مصر لموجة ما سمى بالتأميم أو الحراسة أو التمصير، وهو فى الحقيقة مصادرة أملاك مصريين لم يرتكبوا أى جرائم وفق ما أثبتته المحاكم العليا لاحقا فى أحكام قضائية نهائية. ثم انتقلنا مجددا إلى الاقتصاد الذى يعتمد على آليات السوق فى عهد الرئيس أنور السادات، ومع ذلك استكملت مصر السد العالى وأدارت قناة السويس بكفاءة عالمية، أنشأت مترو الأنفاق، والموانى والطرق، وتوسعت فى الاستصلاح الزراعى، وضاعفت طاقة الكهرباء فى طفرات غير مسبوقة، وحققت نهضة سياحية كبيرة. لكن اقتصاد السوق كان يتطلب إحكام الرقابة على حركة رأس المال ومنعه من الانحراف والممارسات الضارة بالمنافسة الشريفة، خصوصا بعد ما كشفته الأزمة العالمية (2008) من انحراف رأس المال المتسيب على مستوى العالم، كما شهد عهد الرئيس السابق حسنى مبارك إطلالة من الانحراف فى السلوك الاقتصادى. ضاعف من توغله، ضعف الرقابة المالية والنقدية، وتلاشى الشفافية التى توفرها نظم الديمقراطية والعدالة التى تكفل الرقابة على المال العام، ولولا فضل الله فلا أظن أننا كنا سندرك حجم ما كان ينزف من رصيد هذا البلد. دروس الاختيار دروس الاختيار أثبتت على مر تاريخ مصر - وغيرها من الدول - أنه لا توجد فى الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية نظم كاملة الأوصاف، أو رجال يحلقون بأجنحة الملائكة. ولكن أنجح التجارب لم تكن بالضرورة وليدة اليسار والاقتصاد الذى تديره الدولة وتكون هى المنتج والمحتكر للسلع والخدمات والمتحكم فى أجور وأرزاق الناس، وليس بالضرورة أن تميل الممارسة بالكامل لاقتصاد السوق بكل تسيبه وعدم بلوغه هدف عدالة التوزيع. وإنما تحققت تجارب البناء الناجحة فى تلك التى قدمتها قيادات من النخبة واكتسبت تأييد غالبية الناس، وتحترم الملك الخاص، وتتبنى مشروعات قومية للبناء الوطنى يجتمع خلفها المواطنون، وتقيم اقتصادا حرا يراعى الأبعاد الاجتماعية وعدالة توزيع الدخل، ويتصدى للمهمة رجال مؤمنون بما يعملون، وبأن هذا الوطن أفضل بكثير مما نصوره لأنفسنا، وأنه يستحق أكثر وأفضل بمراحل مما نبذله ومما حققناه حتى الآن، فالمستقبل وأحفادنا ينتظرون منا أن نقدم لهم ما يستحقون من جهد وعناء، ونحقق لمصر العيش والحرية والكرامة للجميع.