أما وقد كادت إيران أن تنهى مصالحتها التاريخية مع الغرب بانجاز الاتفاق حول طموحها النووى، فقد بات لزاما عليها بذل جهود موازية لطمأنة جيرانها العرب بشأن نواياها على الأجلين القصير والمتوسط فى اطار سعيها الصارم والدءوب لتكون إحدى القوى الاقليمية ذات النفوذ فى الشرق الاوسط. الامر الاكيد ان الادارة الامريكية تجد صعوبة فى تسويق اتفاق لوزان حتى داخل امريكا نفسها، فالجمهوريون قلقون وبعض الديمقراطيين ايضا، اما فى الشرق الاوسط حيث ملعب الاتفاق فالكل قلق باستثناء ايران التى عبر شعبها عن فرحته بالانطلاق الى الشوارع رافعين الاعلام وكأنهم يحتفلون بفوز منتخبهم فى مباراة لكرة القدم. لقد كانت مباراة فعلا استغرق وقتها نحو 6 سنوات فى جولات متعاقبة من المفاوضات والشد والجذب والمحادثات المرهقة لكل الاطراف ووسط ترقب عن كثب من كل دول المنطقة. واذا كانت اسرائيل هى الصوت الاعلى فى رفض المحادثات من بدايتها الا ان الاتراك، العدو التاريخى لايران، لديهم مخاوفهم الكامنة جنبا الى جنب مع حساباتهم المعقدة، اما العرب فى الخليج وخارجه فهم الاكثر توجسا من نتائج الاتفاق الصعب الذى يكاد يصبح نهائيا فى يونيو المقبل. كل من فى الشرق الاوسط لديه هواجسه تجاه ايران، واذا كان تسلح ايران نوويا يصيب اسرائيل بالرعب، فإن الصعود الاقتصادى لايران يقلق الاتراك، اما العرب فلا يضيرهم تماما قوة الاقتصاد الايرانى ولا حتى امتلاكها لسر القنبلة النووية، وانما اشد ما يبعث القلق هو ما بعد الاتفاق او بالاحرى هوامش الاتفاق على صعيد تصاعد النفوذ الايرانى فى المنطقة او ما يصطلح على تسميته بالتمدد الايراني، وهذا هو ما يخشاه العرب خاصة فى الخليج. فى 2009، وفى تصريحات نادرة لرئيس عربى اتهم مبارك ايران بالسعى لتقسيم وجدان الشيعة العرب بين الولاء للدولة والولاء للمذهب.. يومها قامت الدنيا ولم تقعد، غير ان ما حدث بعد ذلك فى العراق وسوريا واليمن اثبت صحة استخدام الايرانيين لوحدة المذهب فى تقسيم الناس وخلق المتاعب للدول المستقرة. احلام ايران الامبراطورية لم تتوقف منذ ميلادها الثانى قبل 3 قرون من رحم الخلافة العثمانية، وفى عهد الشاه الذى سبق الثورة كانت ايران تعتمد على الولاياتالمتحدة فى بسط نفوذها فى المنطقة، وبسبب علاقاتها بامريكا والحكم الشاهنشاهى توطدت علاقات طهران بالملكيات والمشيخات العربية، بينما تولت الدول «الثورية» العربية هموم الحد من النفوذ الايراني. وبعد ثورة الخومينى فى عام 1979 انتهجت ايران الاسلامية مسارا جديدا لتعزيز نفوذها الاقليمى عبر خلق البؤر والتوترات فى دول المنطقة واللعب بورقة الشيعة العرب لممارسة دور إقليمى يفوق قدراتها الاقتصادية والسياسية، وكان ما يعرقل تمدد ايران فى المنطقة العداء السافر مع الولاياتالمتحدة ومعظم الدول الغربية وثيقة الصلة بالدول العربية المعتدلة وتلك الآخذة فى الاعتدال. اتفاق لوزان «الاطارى» يحمل فى طياته ما هو اكثر بكثير من مجرد التفاهم حول طموحات ايران النووية، ويمكن القول ان الاتفاق يمثل مصالحة تاريخية مع الغرب.. هذه المرة مع ايران الاسلامية لتواصل ما انقطع مع خروج الشاه ومضافا اليه هذا التمدد الايرانى بين المواطنين العرب الشيعة فى المشرق العربى كله وهذا هو مبعث القلق لدى الحكومات والشعوب فى الدول العربية. من وجهة نظر البعض فإن امتلاك ايران للمعرفة النووية ليس كله ضارا بل قد يحمل بعض الفوائد على طريق دعم التوازن الاستراتيجى فى الشرق الاوسط لولا ان الهواجس من نوايا ايران تعصف بهذا الانجاز الاستراتيجى اذا صح التعبير وفى الحسبان ان ايران تخلت طواعية عن طموحها النووى «العسكرى» فى مقابل جوائز ترى انها لا تقل اهمية فى السياسة والاقتصاد. التجربة التركية فى النمو والخروج الى دائرة الدول الصاعدة كانت ماثلة دائما امام اعين القادة الايرانيين، ومعروف ان الصعود التركى كان وليد اصلاحات داخلية مهمة ولكنه تولد بالاساس من مساعدات غربية قوية على صعيد نقل التكنولوجيا وتدفق الاستثمارات الاجنبية، وهو ما مكن تركيا من احتلال مرتبة سابع اكبر اقتصاد فى اوروبا خلال عقد من الزمان. المال ينقص ايران لكن ما ينقصها اكثر هو التقنيات الحديثة، وقد جربت لسنوات مغازلة الشركات الغربية بالمزايا والتسهيلات الى ان تيقنت ان نقل التكنولوجيا قرار سياسي يتعين الحصول عليه من الحكومات قبل مخاطبة الشركات بهذا الشأن، وهذا ما فعلته فى لوزان، وهذا هو اهم ما توشك ايران أن تحصل عليه بموجب الاتفاق دون انتباه كبير من المهتمين بالشأن الايرانى. الافراج عن الاموال الايرانية المجمدة والتخلص من آثار العقوبات الدولية وصلت الى 200 مليار دولار فى بعض التقديرات اضافة الى السماح للشركات الغربية بالعمل بحرية فى ايران والسماح بربط المعاهد العلمية الايرانية بنظيرتها الغربية هى من بين اهم نتائج اتفاق لوزان مقابل تقييد انتاج النظائر المشعة فى المحطات الايرانية وهى جوائز مهمة تفتح الطريق امام ايران لتحقيق حلمها المؤجل بالانضمام بسرعة الى نادى الدول الصاعدة اقتصاديا بقوة، ولاشك ان هذا فى صالح الشعب الايرانى الذى خرج مهللا للاتفاق، ولكنه يزيد الدول العربية المجاورة لايران قلقا من تعملق قدرات ايران الاقتصادية بما يمكنها من زعزعزة الاستقرار فى مزيد من الدول حولها. وفى ظل الحصار المفروض منذ سنوات قامت ايران بالانفاق او المساهمة فى تمويل اربع حروب فى لبنانوالعراق وسوريا واليمن فضلا عن تزويد فصائل فلسطينية وافريقية بالمال والعتاد الذى يسمح لها بالاستمرار، والسؤال المشروع المطروح الان هو ماذا يمكن ان تفعله ايران بعد رفع العقوبات وزيادة قدراتها الاقتصادية اذا كانت هذه نواياها وهذا سلوكها . الدبلوماسيون الايرانيون هم اكثر الناس حديثا عن السلام والتقارب الاسلامى والتقارب بين الشعوب، ومع ذلك فإن التصرفات على الارض لا تعكس هذه المعانى النبيلة فالاحوال فى البحرين واليمن والعراق وسوريا تشى بالتدخل الايرانى السافر بما يعرقل جهود المصالحة وعودة الامن والاستقرار لهذه البلاد، ومن هنا سيتعين على المسئولين الايرانيين بذل جهود كثيرة على الارض لاقناع نظرائهم فى الدول العربية بامكانية التعايش السلمى والبناء بعد التوصل الى المصالحة مع العرب وفقا لاتفاق لوزان. المسألة اليمنية يمكن ان تكون اختبارا فعليا لنوايا الايرانيين بعد التفاهم مع الغرب فلا احد يريد الحرب فى اليمن والامر كله منوط باستعادة الشرعية ووقف تغول الحوثيين المدعومين علنا من ايران على اشقائهم فى الوطن وبعد ذلك يترك الامر كله للشعب كى يقول كلمته ويعود الاستقرار الى هذا البلد العريق والعزيز لقلوب الجميع. الرئيس الامريكى اوباما يعى بقوة هواجس العرب بشأن اتفاق لوزان وقد قال كلاما مطمئنا بشأن الالتزام الامريكى بحماية اصدقائها فى الخليج، ودعا للقاء فى كامب ديفيد ليوضح لحكام الخليج ابعاد الاتفاق، غير ان حديثه لم يخلُ من امور تضيف الى الهواجس القائمة هواجس جديدة عندما اعترف ضمنيا بالمشكلات الناجمة بين العرب وايران بعد الاتفاق، ولكنه اشار الى أن مشكلات الديموقراطية والبطالة بين الشباب ونقص الحريات من بين الامور التى يجب على حكومات دول الخليج معالجتها جنبا الى جنب مع مشكلاتها مع ايران.. وطرح هذه المشكلات اذا سلمنا بوجودها فى هذا الوقت وبهذا التزامن يخلق من الاسئلة اكثر مما يطرحه من اجابات، واذا كان هناك قصور فى العملية الديموقراطية لدى الدول العربية فلماذا لم يتذكره الرئيس الامريكى قبل الان، ثم ألا يدرى الرئيس الامريكى ان الامر الذى يطرحه الايرانيون هو استقواء مذهبى لحصد نتائج سياسية وهذا ليس له سوى رد واحد وهو احتماء الاخرين بمذهبهم دفاعا عن معتقدات راسخة مهما كانت طلباتهم السياسية من الحكام فهذه هى سمات الحروب الدينية المعروفة على مر التاريخ .. وقى الله الجميع شر الفتن بكل اشكالها.