لأسباب مفهومة، كان مشروع العاصمة الاستثمارية الجديدة هو الاكثر جذبا لاهتمامات الناس من بين كل المشروعات والمبادرات التى طرحت فى قمة شرم الشيخ الاقتصادية. والمشروع من حيث الحجم يقل عن المشروع الضخم لتنمية محور قناة السويس الذى اعلن وزير الاستثمار انه سوف يوفر ثلث الناتج المحلى الاجمالى لمصر فى المستقبل، وهو من حيث الاهمية العملية يقل عن قرار الحكومة الاستراتيجى بالتوسع فى السماح للاستثمارات الخاصة بدخول ميدان انتاج الكهرباء بمبالغ ضخمة وفقا لما اعلن. غير ان الناس تركت كل ذلك وركزت اهتمامها على ما سمى بمشروع العاصمة الادارية او الاستثمارية الجديدة، وبسبب كل هذا الاهتمام يتعرض المشروع لكثير من المدح.. ومن القدح ايضا . وفى مصر بعد يناير نلاحظ ان هناك نوعين من النقد، اولهما على اساس سياسى صرف حيث ينصرف النقد الى كل شىء لأن هدفه هو النيل من الدولة الجديدة وقدرتها على ادارة البلاد، وهذا نوع من النقد من الافضل الالتفات عنه وعدم الاعتداد به. أما النوع الثانى من النقد فهو الذى ينطلق من روح المسئولية الوطنية ويأتى من خبراء لهم تاريخهم فى العمل العام ويتعلق بإبداء ملاحظات فنية او سياسية او عملية تجاه القضايا المطروحة، وهذا هو النقد البناء الذى يتعين الانتباه له والاستفادة منه والرد عليه اذا كانت هناك نقاط تستوجب التوضيح والشرح. وبعيدا عن المهاترات السياسية، تلقى مشروع العاصمة الاستثمارية العديد من الانتقادات والملاحظات التى يمكن تصنيفها من النوع الثانى أى التى تتصف بالنزاهة وتنطلق من نيات طيبة تسعى للاستفادة القصوى من هذا المشروع وتجنب اخطاء الماضى فى إنشاء المدن الجديدة، واخطاء الاخرين الذين مروا بتجربة إنشاء عاصمة جديدة فى الخارج. وقد تراوحت الانتقادات بين افتقاد العدالة الاجتماعية فى تصميم العاصمة الجديدة ووصلت الى حد عدم الحاجة اليها اصلا! بعض من النقد الذى سمعناه منذ الاعلان عن المشروع يتعلق بالجوانب الاجتماعية وقدرة الطبقات المتوسطة والفقيرة على العيش والعمل فى هذه العاصمة الجديدة بمبانيها الفاخرة الغالية الثمن وأنماط الحياة بها والمصممة على احدث ما وصل اليه العالم فى تقنيات بناء المدن، ومع انه من غير المنطقى زرع عشوائيات جديدة فى هذا المشروع الا انه من المهم الاستماع لافكار السياسيين وخبراء علم الاجتماع فى ضرورة تضمين هذه المدينة الجديدة مناطق حديثة ولكنها فى الوقت نفسه تسمح لمتوسطى الدخول بالعيش فيها. وفى بداية القرن الماضى أنشأ البارون امبان ضاحية مصر الجديدة على النسق البلجيكى الفاخر، ولكنه شيد وسط احيائها الراقية مناطق تناسب سكن اصحاب الدخول الضعيفة يتبقى منها حتى الان منطقة ميدان الجامع وشارع هارون الرشيد وبعض الشوارع المحيطة به، وإن كانت بمضى الزمن ومع غلاء الاسعار لم تعد مساكن للفقراء الان. المهم ان آراء كثيرة خلصت الى ضرورة ان يضمن مشروع العاصمة الجديدة انشاء مجتمع مصرى حقيقى تستطيع مختلف طبقات الشعب العيش فيه دون ارهاق مادى او معنوى، وهذا ممكن بل مطلوب لاسباب اقتصادية ايضا بجانب المبررات الاجتماعية والسياسية. اما نصف الانتقادات التى وجهت للمشروع فقد كنا فى غنى عنها فقط لو غيرنا اسم المشروع وحذفنا منه لقب العاصمة، فالمدينة الجديدة تعد امتدادا طبيعيا للقاهرة الجديدة، وبالتالى فإنها تمثل نموذجا مختلفا لما حدث فى البرازيل عندما انشأت عاصمة جديدة «برازيليا» تبعد مئات الكيلومترات عن العاصمة القديمة والشهيرة ريودى جانيرو، ولا ما حدث فى نيجيريا عام 1991 عندما طورت مدينة ابوجا وحولتها لعاصمة جديدة بعيدا عن لاجوس العاصمة القديمة التى تعد مركزا تجاريا وماليا لغرب افريقيا.. حتى الان. العاصمة الجديدة تختلف حتى عن تجربة ماليزيا فى هذا الشأن عندما انشأت عاصمة حكومية جديدة منحت اسم بتراجايا تبعد نحو 46 كيلومترا عن العاصمة القديمة كوالالمبور التى لاتزال اهم المدن والعاصمة التجارية للبلاد فيما يقتصر دور العاصمة الجديدة على ضم الوزارات والمنشآت الحكومية وبعض السفارات، بل ان كثيرا من الموظفين مازالوا يفضلون الاحتفاظ بمقار اقامتهم فى كوالالمبور والذهاب يوميا للعمل فى بتراجايا، وهو امر يمثل نقدا دائما يوجه لمهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الاسبق ومؤسس ماليزيا الحديثة باعتباره لم يراع الجوانب الاجتماعية عندما قرر انشاء العاصمة الجديدة بتكاليف باهظة. عاصمتنا الجديدة ما هى فى الواقع الا امتداد طبيعى للقاهرة باتجاه الشرق حيث الاراضى صحراوية غير قابلة للزراعة وهو اتجاه سليم فى انشاء المدن الجديدة وهو توسع من شأنه ان يجعل القاهرة مدينة ساحلية فى غضون سنوات قليلة بارتباطها بمنطقة قناة السويس والبحيرات كما هو مخطط عند اكتمال مراحل المشروع على مساحة 700 كيلومتر مربع. وقد تقبل القاهريون عن طيب خاطر التوسعات التى تمت حول العاصمة منذ بداية تسعينيات القرن الماضى التى ادت الى خلق عدة مناطق تحتوى على احياء كثيرة ساهمت فى جذب ملايين السكان خارج القاهرة القديمة، والان نحن بصدد استكمال انشاء مرافق تجارية وخدمية لتوفير فرص عمل لقاطنى هذه المناطق الجديدة.. المشروع الجديد وفق ما اعلن عنه هو بمثابة تطوير لسياسة التوسع العمرانى حول القاهرة هذه المرة باتجاه الشرق وهو اتجاه لا غبار عليه من الناحية الاقتصادية والبيئية خاصة فى ظل الانتعاش المتوقع لقناة السويس بعد تنفيذ مشروعات التنمية على ضفتيه. لقد رأينا خلال السنوات الماضية ضخ استثمارات عقارية معتبرة فى المناطق الجديدة حول القاهرة، ورغم ارتفاع اسعار هذه العقارات وارتفاع تكلفة الحياة بصفة عامة فى المدن الجديدة مقارنة بالاحياء القديمة، فإن هذا لم يقف عائقا فى جذب شرائح من المصريين للعيش والاقامة فى هذه المدن التى تشهد اقبالا متزايدا فاق توقعات وزارة الاسكان، وهو ما حدا بالدولة الى اجراء توسعات للطرق المؤدية الى هذه المناطق وانشاء العديد من الجسور والانفاق لازالة الاختناقات المرورية على الطرق المؤدية الى القاهرة الجديدة واكتوبر وغيرها. إنشاء العاصمة الادارية الجديدة بهذا المنطق يمثل توظيفا شاملا للاستثمارات العقارية فى خدمة خطط التنمية الطموح التى شرعنا فى تنفيذها حاليا، وهنا لا يصح التذرع بغياب العدل الاجتماعى لوقف هذه المشروعات، فغالبية الامريكيين لا يمكنهم السكن فى جزيرة مانهاتن بوسط نيويورك ولا فى الضواحى الفاخرة على اطراف المدن الامريكية، ومع ذلك لا أحد يتحدث عن غياب العدالة الاجتماعية فى سياسات الاسكان هناك. المهم ان يجد من هو فى حاجة الى مأوى السكن المناسب له ولو بدعم مباشر من الدولة اسوة بما يحدث فى غالبية الدول الاوروبية. خلط الاوراق بين ما هو اقتصادى وما هو اجتماعى، حتى لو جرى بحسن نية، يمثل خطرا على مشروع التنمية السريعة والمستدامة التى نتمنى جميعا الشروع فى تنفيذها عقب انتهاء اعمال قمة مصر المستقبل. فكل من له صلة يعلم ان النمو السريع هو مفتاح الانتعاش الاقتصادى وانه لا يمكن الحديث عن التوزيع العادل لعوائد التنمية ما لم تكن هناك تنمية من الاصل، وهو الوضع الذى نحن عليه تقريبا منذ عام 2008 .. وهو وضع لا يمكن استمراره ولا ينبغى السكوت عليه. وبعيدا عن المشروع المثير للجدل شهدت قمة شرم الشيخ توجها جديدا ربما لم يحدث طوال الستين عاما الماضية، وهو اشراك القطاع الخاص والاجنبى بقوة فى مشروعات انتاج الطاقة وهو عمل كان قاصرا على الدولة وشركاتها. ربما كان نقص الموارد المالية السبب المباشر وراء هذا التوجه، ولكن السماح للاستثمارات الخاصة بولوج انشطة تشييد المرافق سوف يكون له فوائد كثيرة على انعاش الاقتصاد ودعم خطط النمو السريع، وهى خطوة جريئة تتجاوز قيودا قديمة لم تعد صالحة لهذا الزمان. اهمية قمة شرم الشيخ تتجاوز اجتهادات «الحسابين» فى عد قيمة الاستثمارات والمساعدات التى اعلن عنها خلال انعقاده، ولكن انعقاد المؤتمر فى ذاته وبالتمثيل العربى والدولى الذى شاهدناه يمثل انجازا حقيقيا يفتح المجال امام تحقيق العديد من الانجازات.. ولهذا احتفى المصريون بالمؤتمر ونتائجه على نحو لم يلقه حدث اقتصادى منذ سنوات كثيرة.