مرة أخرى أعود إلى الكتابة عن العاصمة السياسية والإدارية الجديدة لمصر. كتبت مرة قبل أن تتخذ مصر قرارها الأخير بإنشاء العاصمة الجديدة وأعود إليها اليوم بعد أن نفذ السهم وصار إنشاؤها مسألة وقت يبدو أنه لن يطول، خصوصاً والجهة القائمة بالتنفيذ مشهود لها بالسبق والسرعة وكفاءة الإنجاز. ومدينة دبى، درة الخليج، مثال يتألق ويبهر، وسابقة جديرة بأن تُحاكى أو تستلهم. لست من المعارضين لعاصمة جديدة، كنت فى يوم من الأيام وما زلت من أشد المتحمسين لها وأكثر المعارضين لأى «عمليات تجميل إضافية» للمرأة التى شاخت ولم تعد «المساحيق» تكفى لسد أخاديد الزمن التى حفرت وجههاً طولاً وعرضاً وعمقاً! وكان آخر هذه المحاولات «لترميم» القاهرة القديمة وتجميل «وجهها المشدود» هو ما عرف فى عام 2010 ب«المخطط الاستراتيجى للقاهرة 2050» والذى لم يكن إلا اجتهاداً مشكوكاً فى نجاحه لإجراء تحسينات موقوتة للمدينة الكوزموبوليتانية المرشحة للانفجار. وكانت النتائج المتوقعة للمخطط الذى أدركته وأدركت مصر معه عناية الله وثورة 25 يناير 2011، مأساوية وهى إعادة إنتاج الأزمات نفسها التى تعانيها المدينة التاريخية ويكابدها سكانها المختنقون فيها وبها. وللتاريخ فإن «المخطط» كان التفافاً شيطانياً على مقترح تقدمنا به فى 2009 بإنشاء عاصمة إدارية وسياسية جديدة لمصر، بعد أن تجمعت كل الأسباب والنذر التى تحتم الخروج سريعاً -وقبل نزول كوارث لا تحمد عقباها- من نفق القاهرة الضيق! وقتها كنت مديراً لمركز الدراسات المستقبلية بمجلس الوزراء، ونقل إلينا الصديق الدكتور ماجد عثمان رئيس مركز المعلومات الأسبق رغبة الحكومة آنئذ فى إنشاء عاصمة إدارية جديدة، وهى رغبة أوحت بها إلى الحكومة زيارة قام بها الرئيس مبارك إلى الصين وجد فيها الصينيين يعدون العدة للبدء فى مشروع «بكين 2040» بعد أن وصلت العاصمة القديمة بكين إلى حدودها القصوى. فى الدراسة التى أعددناها عن العاصمة الجديدة لمصر فى 2050 كان الرأى الذى انتهيت إليه وعدد من الخبراء المرموقين فى تخطيط المدن، أن العاصمة الجديدة يجب أن تنشأ بمنأى عن نفوذ العاصمة القديمة وبريقها، وأن تفلت من «مجال جاذبيتها» الذى لا يقاوم. لقد أصبحت القاهرة عاجزة عن الوفاء بمتطلبات «جودة الحياة» بمقاييس هذا القرن، من ظروف معيشية مقبولة وأمان وراحة وبيئة صالحة للعيش والعمل والترفيه لساكنيها ومرتاديها، وتقديم الخدمات الذكية التى تسهل الاتصال الداخلى والخارجى، وتوفر الوقت والجهد، والتى تجتذب رؤوس الأموال ومقار الشركات العالمية والفئات الأذكى للسكن بها. كان من الضرورى التفكير فى عاصمة جديدة لمصر تكون جزءاً لا يتجزأ من الرؤية المستقبلية لمصر فى 2030. فالكثافة الحالية للقاهرة هى أضعاف ما يجب أن تكون عليه ليمكن للإنسان المصرى أن يحيا حياة كريمة. ومعظم الأزمات التى نتخبط فى حبائلها فى المعمور المصرى هى نتيجة مباشرة لهذه الكثافة، من تكدس وتزاحم واختناق مرورى وعشوائية فى البناء، وتآكل الأرض الزراعية والتلوث البيئى، مع ما يسببه كل ذلك من أضرار صحية ونفسية، وخسائر اقتصادية ووقت مهدر ونفقات هائلة لعلاج المشكلات التى يخلفها التكدس، والتكاليف الاجتماعية لأخلاق الزحام كالعصبية والعنف والجريمة وأطفال الشوارع. كانت الفلسفة وراء تطوير القاهرة بخفض كثافتها والقضاء على التكدس ترتبط على المدى البعيد باستئصال المشكلة من جذورها، بدلاً من الاستمرار فى إهدار المال لإصلاح آثارها وترقيع ثوبها، وهو ما يعنى ضرورة إنشاء عاصمة سياسية جديدة، مع الإبقاء على القاهرة، بكل ثقلها التاريخى والوجدانى، عاصمة ثقافية وسياحية، الأمر الذى يمكن من توزيع الاستثمارات والخدمات خارج القاهرة إلى مناطق أخرى أقل نمواً وتطوراً فى مصر. أما إنفاق المزيد من المال لتحسين القاهرة دون نقل العاصمة فسيكون سبباً فى زيادة المشكلة لا حلها، حيث إن تحسين بيئة القاهرة العمرانية وتحويلها إلى مدينة مريحة سيكون نتيجته جذب المزيد من السكان لالتهام هذا التحسن. وهذه الحلقة المفرغة يستحيل كسرها إلا بتوقف هذا «التحيز الحضرى» للقاهرة وتمييزها عمرانياً وتنموياً على غيرها من المدن فى الخدمات والاستثمارات، وخلق مراكز جذب أخرى، ونقل العاصمة الإدارية والسياسية من القاهرة إلى موقع جديد، يبعد عنها بمسافة كافية تضمن إفلاتها من تأثير جاذبيتها الشديدة، بل وتوفير مجموعة من «العواصم الوظيفية» ذات وظائف متنوعة تجتذب الاستثمارات وتخلق فرص العمل. ونحن لسنا استثناءً من دول كثيرة نقلت عواصمها لأسباب مختلفة كالبرازيل وتركيا وباكستان ونيجيريا وغيرها. لا اعتراض على إنشاء عاصمة جديدة لمصر، ولكن ليس على مرمى حجر من العاصمة القديمة، وإلا تحولت مع الزمن والتوسع العمرانى السريع إلى ضاحية جديدة من ضواحى القاهرة. والموقع المقترح على طريق السويس الذى تقطعه السيارة فى أقل من ساعة يتعارض ومتطلبات الموقع الأمثل للعاصمة الجديدة، وأهمها أن يكون هذا الموقع بعيداً عن المدن الكبيرة سريعة النمو كالقاهرة والإسكندرية، وأن يقع على أحد محاور التنمية المستقبلية، بالقرب من مدن متوسطة أو صغيرة يسمح بنموها نتيجة التنشيط المتبادل. ولنا فى جامعات الدلتا عظة وعبرة، وخصوصاً تلك الجامعات القريبة من القاهرة مثل بنهاوالسويس والزقازيق التى تخلو من الحياة ويتوقف نشاطها الأكاديمى بعد الساعة الثانية ظهراً، حيث يعود أساتذتها ومنتسبوها -بعد دوام قصير- من حيث أتوا، إلى القاهرة أو فندقهم الكبير! لا خلاف إذن على عاصمة جديدة لمصر، لكن هل يمكن قبل أن يسبق السيف العزل أن نعاود التفكير فى موقعها المقترح؟!