بانتخاب رئيس جديد -فى مشهد كرنفالى مبهج وبأغلبية أقرب إلى الإجماع- لم يبق إلا خطوة ثالثة وأخيرة وتكتمل خارطة المستقبل. وبهذه الخطوة بات المصريون على مرمى البصر من دولتهم الجديدة التى ظلت -طوال السنوات القليلة من عمر الثورة - أملاً مراوغاً كلما أمسكوا به أفلت من أيديهم، وكأنه سراب يحسبه الظمآن ماءً. والدولة الجديدة التى يبزغ فجرها مع الرئيس الجديد دولة عصرية تكتنز كل طموحات المصريين، وتتسع لأحلامهم وهى عريضة، وتفتح ذراعيها على المستقبل وتستودعه وعودها. ومن بين أعز أحلام المصريين التى تراودهم أن يروا عاصمة بلادهم فى الهيئة التى كانوا يرونها عليها فى الأفلام السينمائية القديمة، هادئة وادعة نظيفة. ومنذ سنوات بدأ المصريون يضيقون بالقاهرة وتضيق بهم، ولم يعد بمقدورنا أن نفكر فى مستقبل قريب أو بعيد من دون أن يكون التفكير فى عاصمة جديدة لمصر جزءاً لا يتجزأ من رؤيتنا للمستقبل. والرئيس الجديد وهو يفكر فى إعادة هندسة مصر جغرافياً وديموجرافياً، باستغلال الفضاء الصحراوى وإعادة توزيع السكان على الحيز غير المعمور وتحقيق العدالة الجهوية والإقليمية بين الأقاليم والمحافظات، لا بد أن يقع فى قلب هذا التفكير إنشاء عاصمة جديدة لمصر. فقد شاخت القاهرة إلى الحد الذى يمكن أن تخذل فيه «شباب» الدولة الجديدة وتعرقل تقدمها وتوقف دولاب الحياة فيها، وأصبحت عاجزة عن أن تفى بمتطلبات جودة الحياة بمقاييس هذا القرن، من ظروف معيشية مقبولة وبيئة آمنة مريحة، وخدمات ذكية تذلل الاتصالات الداخلية والخارجية، وتقتصد فى الوقت والجهد، وتجتذب رؤوس الأموال والشركات العالمية الكبرى والفئات الأذكى للسكن والعمل بها. فالكثافة الحالية للقاهرة -وهى مدينة متروبوليتانية- تخطت حدودها القصوى واصطدمت بالنهايات غير الآمنة من تكدس واختناق وأعناق زجاجات، ومشكلات سير وتآكل الأرض الزراعية وتلوث البيئة الذى وضع القاهرة فى منافسة على المراكز الأولى بين أعلى المدن تلوثاً فى العالم! بكل ما ينطوى عليه ذلك من تكاليف اجتماعية واقتصادية باهظة. والحق أن إنشاء عاصمة جديدة لمصر لم يكن بعيداً عن تفكيرنا فى السنوات الأخيرة. ففى عام 2009 بدأتُ ومجموعة من الخبراء فى مركز الدراسات المستقبلية بمجلس الوزراء مشروعاً لعاصمة جديدة فى 2050، انتهى إلى إعداد كراسة أولية، تضمنت مقترحاً بإنشاء عاصمة جديدة تقع على مسافة بعيدة من القاهرة، تكفى للإفلات من إغراءاتها وتأثير جاذبيتها التى لا يقاوم. لكن المشروع لأسباب سياسية لم ير النور ووئد قبل أن يولد، واستبدلت به لجنة السياسات -سيئة السمعة- بالحزب الوطنى مشروعاً جديداً عرف ب«المخطط الاستراتيجى للقاهرة 2050»، ظهر ضمن خطة «تسويق» الوريث والاستعداد لتتويجه، لكنه لم يكن أكثر من خطة إعادة توزيع للوزارات والمصالح والهيئات من أحياء القاهرة القديمة إلى أحيائها الجديدة، وصفته يومها بأنه مشروع لإعادة تجديد أزمات القاهرة، وتأجيل -حتى حين- لكوارثها واختناقاتها! فقد كان الرأى بأن تجديد القاهرة وتطويرها بخفض كثافتها والقضاء على التكدس فى شوارعها وميادينها يرتبط فى المدى البعيد بعلاج المشكلة من جذورها، بدلاً من الاستمرار فى إهدار المال فى «عمليات تجميل» متكررة لن تعيدها إلى صباها أو تسترد لها بهاءها. عمليات تجميل تذكرنا بمطربة عربية متصابية ما زالت -وقد بلغت من العمر أرذله- تشد وجهها بين الحين والآخر دون جدوى! ليس لذلك إلا معنى واحد، وهو ضرورة إنشاء عاصمة سياسية وإدارية جديدة، والإبقاء على القاهرة -بكل وهجها وتألقها ورسوخها فى الوجدان العربى- عاصمة ثقافية وسياحية ومركز جذب حضارياً. أما إنفاق المزيد من المال لتحسين القاهرة وتجميلها دون نقل العاصمة منها فسيكون سبباً فى إعادة إنتاج أزماتها أو تأجيلها، لكنه لن يضع حداً لتدهور شروط الحياة فيها. وقد نجحت دول عديدة فى نقل عواصمها، دون أن تستسلم بحكم الألفة وتزايد المصالح لاستبداد العاصمة المتروبوليتانية وطغيان إغراءاتها. فقد تغيرت العواصم القديمة لتركيا وباكستان وماليزيا ونيجيريا، وانتقلت عاصمة البرازيل من ريو دى جانيرو الساحلية إلى برازيليا الداخلية، بهدف تنمية قلب البرازيل الذى أهمله الاستعمار البرتغالى، الذى ركز التنمية على السواحل مدفوعاً باقتصاد التصدير القائم على البن والسكر والقطن. لقد استغرق نقل العاصمة البرازيلية من ريو دى جانيرو إلى برازيليا نحو 70 عاماً منذ نص على نقلها الدستور البرازيلى فى عام 1890 حتى نُقلت بالفعل فى عام 1960. لم يكن المهم كم يستغرق نقل العاصمة من الزمن إنما المهم هو إرادة البداية! وثمة عوامل عديدة، استراتيجية وسياسية وبيئية تحدد الموقع الأمثل للعاصمة الجديدة، أهمها أن تنأى عن المدن الكبيرة سريعة النمو مثل القاهرة والإسكندرية، وأن تقع على أحد محاور التنمية المستقبلية، بالقرب من مدن متوسطة أو صغيرة ذات ظهير صحراوى يسمح بنموها نتيجة التنشيط المتبادل، خاصة مع النمو المتزايد لحاجات العاصمة الجديدة إلى خدمات ذات مستوى عال بعد فترة قصيرة من بداية حياتها، كالجامعات والمدارس والمستشفيات وخدمات الاتصالات، لسكان يتشكلون من كل الفئات والطبقات، بعكس المدن الجديدة التقليدية التى يهاجر إليها الشباب ومحدودو الدخل. تتعدد آراء الخبراء وتتباين حول موقع العاصمة الجديدة. وليس ثمة من يقطع برأى فى الموقع الأمثل. بعضهم يقترح موقعاً فى منطقة تتوسط مصر، تفترش الظهير الصحراوى الشرقى بالمنيا وشمال أسيوط وتمتد غرباً حتى الأطراف الشرقية للواحات البحرية. والبعض الآخر يرجح موقعاً فى منطقة حُبلى بوعود المستقبل، حيث مزارع الطاقة الشمسية الرخيصة، ومحطات إعذاب مياه البحر والأرض المنبسطة العفية فى الشمال الغربى للبلاد التى تطل على الساحل الشمالى. لكن يظل موقع العاصمة الجديدة وبدائله قراراً سياسياً استراتيجياً محكوماً باعتبارات اقتصادية وبيئية وأمنية وعسكرية، وهو قرار كان مستحيلاً أن يتخذه نظام غارق فى فساده أو نظام غارق فى أوهامه.