طرحت الحكومة مؤخرا فكرة نقل الوزارات والهيئات الحكومية إلى موقع مركزى يقع على طريق السويس ليكون عاصمة إدارية جديدة لمصر. وما من شك أن مصر فى حاجة إلى أفكار جديدة من خارج الصندوق لعلاج المشكلات اللوجستية والاجتماعية المتفاقمة والمزمنة التى تعانى منها العاصمة بحكم تركز الكثافة السكانية والنشاط السياسى والاقتصادى والمؤسسى بها. ولعلاج تعقد وتفاقم المشكلات التى يعانى منها الجهاز الحكومى بحكم تضخمه وتشتته وترهله وضعف كفاءته وانتشار الفساد فيه. فقد تضخمت القاهرة حتى تجاوزت الآن وصف جمال حمدان لها بأنها رأس كاسح على جسد (بقية مصر) كسيح، وتضخم الجهاز الحكومى المركزى الذى يتمثل فى الوزارات والمصالح والهيئات التابعة لها، وأصبح مع توسعه وتشتته وتراجع وانهيار كفاءته وانتشار الفساد فيه عبئا على التنمية بدلا من أن يكون داعما ودافعا ومنشطا لها. والسؤال هنا: هل يكون الحل فى نقل هذا الجهاز إلى أطراف القاهرة أم يكون فى إعادة النظر بصورة شاملة فى أوضاع ومشكلات العاصمة لوضع حلول جذرية لها، وإعادة بناء وهيكلة الجهاز الحكومى ككل وعلى نحو شامل؟ لقد طرحت فكرة نقل الوزارات وإنشاء عاصمة إدارية جديدة لمصر منذ فترة حكم الرئيس السادات، لكنها لم تتحول إلى مشروع متكامل ربما لغياب الرؤية والمنظور الاستراتيجى الشامل الذى يعالج المشكلات التنموية لمصر فضلا عن غياب الإرادة السياسية لتحقيق هذا. وهناك خبرات عديدة أوسع مدى على مستوى العالم لنقل العواصم وإنشاء عواصم جديدة لتكون المركز الإدارى الجديد والمتطور للحكومة. ومن هذه الخبرات إنشاء مدينة برازيليا لتكون العاصمة ولتحل محل ريو دى جنيرو فى البرازيل، وجعل إسلام أباد العاصمة محل كراتشى فى باكستان، ودودوما محل دار السلام فى تنزانيا، وبرلين محل بون فى ألمانيا، وأستانا محل ألماتى فى كازاخستان، وبتراجايا محل كوالالمبور فى ماليزيا. وفى عدد من هذه الحالات كان أحد الاسباب المعلنة هو تحديث وتطوير الجهاز الحكومى المركزي. لكن النماذج الناجحة منها وهى قليلة إعتمدت على وجود مخطط شامل لإعادة بناء الدولة والوطن Nation Building State and ووجود رؤية إستراتيجية للتنمية يمثل نقل العاصمة أحد عناصرها. وفى أغلب الحالات التى لم يحقق نقل العاصمة النجاح المنشود وفق ما هو موثق فى الدراسات العالمية، كان إنشاء العاصمة الجديدة إما تلبية لاعتبارات سياسية صرفة أو لرؤية فردية من الحاكم أو استجابة لمصالح النخبة التى استفادت من هذا المشروع العملاق. وفى الحالة المصرية هناك محاذير عديدة تتطلب منهجا آخرا فى التعامل مع مشكلات القاهرة وأوضاع الجهاز الحكومي. فنقل الوزارات والأجهزة الإدارية فى العاصمة إلى الموقع المقترح لن يحل مشكلات الجهاز الإدارى المركز فى العاصمة ولن يحل مشكلات القاهرة، بل قد يضاعف من هذه المشكلات. ويحمل النقل إلى الموقع الجديد فضلا عن تكلفته الباهظة عددا من المخاطر لعل أهمها امتداد وتوسع وتضخم العاصمة حيث لن يلبث التوسع العمرانى أن يمتد خلال سنوات إلى المناطق الفاصلة بين مصر الجديدة ومدينة نصر والقاهرة الجديدة وبين الموقع الجديد، لتتحول القاهرة الكبرى إلى ديناصور ضخم يستحيل حينئذ إدارته وخدمته أو السيطرة عليه. وهناك حلول مبدعة وممكنة لمشكلات القاهرة المتمثلة فى التضخم والتكدس واختناق شرايين النقل والمرور وأوضاع المناطق الفقيرة والعشوائيات وتدفق الهجرة إليها من الأقاليم الفقيرة، لكن فاعليتها تتوقف على كونها جزءا من منظور شامل لكل مصر. وقد تضاعفت وتفاقمت هذه المشكلات عبر العقود الأخيرة نتاجا لغياب التخطيط المتكامل وضعف إرادة الإصلاح. وهناك العديد من الدراسات والحلول التى بقيت حبيسة الأدراج وكانت تحتاج فى الماضى إلى إرادة سياسية لتشكل برنامجا متكاملا ومنظور تنموى شامل لكل مناطق مصر مصحوبة بآليات فعالة للتنفيذ. ولا زالت أوضاع العاصمة فى حاجة إلى رؤية استراتيجية شاملة لا تتعلق بها فقط وإنما بالخريطة التنموية المستهدفة للسكان وتجمعاتهم والأنشطة الاقتصادية وتوازن وعدالة توزيعها والأطر والشبكات اللوجستية والمؤسسات على مستوى مصر ككل، التى تحقق الأمن والتقدم والرفاهية والعيش الكريم للمصريين، بحيث تعالج مشكلات العاصمة فى إطارها وبالتضافر معها وليس بمعزل عنها. وبالنسبة لمشكلات الجهاز الإدارى المركزى العميقة لا يمثل النقل إلى موقع جديد الحل الحقيقى لها. فالحل المطلوب يتمثل فى إعادة هيكلة هذا الجهاز لتقليل عدد الوزارات والهيئات بدمج بعضها وإلغاء البعض الآخر واستحداث كيانات جديدة مطلوبة وتقليص الهياكل الوظيفية وتحقيق اللامركزية وإعادة هندسة العمليات الإدارية لتكون موجهة بالنتائج والأداء والجدوى مع إدخال النظم الإلكترونية الحديثة فيها وفى الخدمات المقدمة. ولن يتم هذا دفعة واحدة وإنما وفق مخطط متوسط وليس طويل الأمد، ينبغى البدء فيه الآن وليس غدا. وتتوقف فاعلية الحلول على معالجتها للأسباب الحقيقية والعميقة للمشكلات التى يعانى منها هذا الجهاز وظلت تتفاقم وتتعقد منذ أربعة عقود. والحاجة ماسة إلى وضع مخطط شامل لإصلاح هذا الجهاز وإعطاء هذا المخطط الاهتمام من قبل رئيس الدولة مباشرة لإعطائه الدعم السياسى المطلوب ولمتابعة التنفيذ والتقدم المحرز فيه. وينبغى أن يشتمل المخطط فى المدى القصير والمتوسط على تجميد النمو وإيقاف أو ضبط التوسع فى الهياكل التنظيمية والوظيفية للجهاز الحكومى الحالي، وإلى البدء فى نقل الكثير من السلطات والصلاحيات للمحليات وتعزيز دورها فى المبادرات التنموية وتقديم الخدمات الإدارية التى تقوم بها الأجهزة المركزية حاليا مع تقوية آليات المساءلة ومكافحة الفساد التى تخضع لها المحليات حتى تتحقق الغاية من اللامركزية ولا يترتب عليها المزيد من استفحال الفساد فيها.