قررت القيادة السياسية تنظيم مؤتمر للاستثمار فى مصر لاستعواض ما نجم عن الاضطرابات المصاحبة للثورة من آثار سلبية. سواء على البنية التحتية أو القطاعات الصناعية فضلا عن تراجع مصادر النقد الأجنبى والبطء الشديد الذى بلغ حد التوقف فى بعض القطاعات الاستثمارية. ولا ينبغى أن يغيب عن الذهن أن كل ما سبق أدى الى اثار سلبية لدى المواطن، انعكست فى صورة عدم الثقة فى كل السياسات والاتجاهات السابقة على الثورة، رغم أن معدل التنمية وصل الى معدلات قياسية بالمقاييس الدولية. وقد كان بالغ الغضب والرفض منصبا على التحول الى القطاع الخاص سواء فى صورة بيع شركات القطاع العام الى القطاع الخاص او فى صورة نشأة كيانات اقتصادية كبيرة ضرورية بشركات أجنبية. وذلك على اعتبار أن هذا التحول الجوهرى فى سياسات الاستثمار استند جله إلى الفساد فى صوره المعتددة، أما من حيث النظرة الخارجية فقد اتجه الأمر الى منحى آخر مضمونه أن مصر ارتدت إلى العباءة الحكومية الشاملة فى الجانب الاقتصادى خاصة أن التشدد الأمنى الذى عانى منه بعض كبار المستثمرين العرب فى مصر قد أدى الى صعوبة الموقف بخصوص بعض الاستثمارات الخارجية التى سارعت فى الحال الى تصفية اعمالها بمصر والانتقال الى دول أخرى. ولعل أهم الاثار السلبية لهذه الفترة هى الدعوة الى عودة الاتجاهات الانغلاقية دون مراعاة تغير الظروف والمناخ الدولى الحاكم للسياسات الاقتصادية فى جميع الدول بما فيها التى كانت تتبع السياسات الاشتراكية أو الشمولية. أو حتى تغيير مفهوم الاشتراكية الى مفهوم حديث يقوم على اقتصاد السوق والمنافسة مع اتخاذ الوسائل التى تحول دون الاحتكار والضمانة الشاملة لحقوق الجميع أو المجتمع بمكوناته من مستهلكين وأصحاب حقوق الملكية وعمال، وبما يعرف stake holders ومع اتباع الوسائل التى تكفل الحد من الفساد وسوء استخدام السلطة باتباع ما يعرف بالحوكمة governance وذلك سواء فى القطاع العام او القطاع الخاص. ومع استقرار الرأى على أن تعويض التراجع الاقتصادى خلال فترة الثورة لن يتأتى إلا بسياسات داعمة للاستثمار المحلى والخارجى بشكل مكثف فقد تم تعديل الخطة بإضافة مشروعات ضخمة تقيمها مصر فى مجال النقل والتخزين، بما فى ذلك تيسير التجارة العابرة واستحداث مناطق لوجستية. كما أضافت الكثير من المشروعات فى المجالات الزراعية والصناعية، وتم التواصل مع المستثمرين فى الخارج، وتعديل أو تغيير قانون الاستثمار لتجاوز فترة التشكيك وعدم الاستقرار التى ظلت سائدة منذ بداية الثورة. ومنذ بداية الاعلان عن الموعد المقرر للمؤتمر وتأجيل هذا الموعد والجميع يتساءل هل سينجح هذا الموتمر فى جلب الاستثمارات المطلوبة. ووفق ما يرد بالصحف والمجلات، ويدور من حوارات بالندوات، فإن الرأى بشأن فائدة أو نتائج هذا المؤتمر تتراوح بين التشاؤم الشديد او التفاؤل الاشد. وقد لوحظ أن أصحاب كل رأى ينتهون إلى رأيهم دون إسناد مقنع بل أيضا لا يحاولون الاجتهاد لمعرفة القواعد والاسس التى أصبح متفقا عليها الان للتعرف على إمكانية الاستثمار من عدمه فى بلد ما. وقد تطورت هذه القواعد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن عبر مراحل مميزة بدأت بمشروع مارشال بقصد مساعدة الدول التى تضررت من الحرب من خلال مشروعات بتمويل حكومى او دولى بقصد خروجها من كبوتها الاقتصادية لتكون قادرة على الاستمرار وقد قام البنك الدولى بالدور الاساسى فى هذا العمل تحت المسمى الذى بدأ به وهو البنك الدولى للانشاء والتعمير الذى تكون خصيصا كإطار تمويلى من مساهمات جماعية للدول المساهمة فى رأس المال الاساسى للبنك. ومع العودة القوية للشركات الخاصة إثر الاستفادة من التكنولوجيا التى ظهرت إبان الحرب فى تقنيات الاتصالات ومع استعواض التكوين الرأسمالى فى الدول الغربية ظهرت الحاجة إلى زيادة الطلب الكلى فى ضوء زيادة العرض بصورة كبيرة فبدأت الشركات الكبيرة فى تعدد مراكز إنتاجها فى الاسواق الخارجية لتصبح متعددة الجنسية فى شكل استثمار فى بلد أجنبى . فى حين أن بعض الدول رفضت هذا الشكل الذى قد يتضمن بعدا سياسيا ورأت أن تقوم الحكومة بدور المنتج الاقتصادى، سواء بجوار القطاع الخاص المحدود أو بمفردها، وبالتالى اعتمدت تلك الدول على المدخرات المحلية، خاصة المدخرات الحكومية وأيضا القروض الخارجية الحكومية سواء من جهات دوليةأومن حكومات اخرى. وفى إطار ما انتهى إليه العالم بعد عام 1990 من أن الدور الحكومى ينبغى أن يقتصر على وضع الضوابط التى تحول دون تغول الشركات الكبيرة، ودخولها فى ممارسات احتكارية تضر بالمستهلكين وباقى المنتجين مع إزالة الحواجز بين الدول، وتشجيع التجارة الدولية، والاعتماد بالدرجة الاولى على القطاع الخاص فى الانتاج لحماية المستهلك، من أن يجتمع دور الرقيب مع المنتج إذا ما استمرت الحكومات فى قيامها بدور المنتج. وفى ضوء ما سبق كله أصبح اقتصاد السوق هو الصيغة المتفق عليها حتى ينتهى الأمر الى ان يكون العالم قرية صغيرة تتحرك خلالها الموارد. وبهذا تتعاظم الفوائد المتبادلة بما يخدم البشر جميعا. فى هذا السياق تحتم أن تكون هناك أطر اقتصادية متقاربة ومعايير قياس موحدة الى حد كبير، ومفهوم جديد لتنمية الدول يشمل سائر القطاعات الخدمية والانتجاية كما يتضمن أيضا معايير للتنمية فى مجالات الصحة والتعليم والخدمات العامة للمواطنين والعناية بالبيئة وفق المفهوم الجديد للتنمية باعتبارها التنمية المستدامة التى لا يقتصر اثرها على الحاضر فقط وانما الحاضر والمستقبل أيضا وبالتالى أصبح الاساس فى تقييم الدول، ليس مجرد زيادة الدخل القومى او متوسط دخل الفرد كما كان سابقا وإنما قياس النمو الكلى بما يعكس الاهتمام بالمواطنين وبذلك أصبحت المعاير المطلقة التى تعكس الاداء فى دولة ما ومدى تقدمها بين فترة واخرى لا جدوى من اتباعها فربما كانت الدولة اقل من غيرها رغم تقدمها وفق ما تعكسه نسب التقدم لديها وأصبحت المقارنة وفق معايير عدة يتم ترتيب الدول وفق المعيار بحيث يعكس ترتيب الدولة مدى قدرتها على منافسة الدول الاخرى فى مدى الالتزام باحداث التغيير، وبالتالى فإن جهد دولة بذاتها فى تحسين الاداء فى احد الجوانب مقارنة بالاعوام السابقة لا يكفى للدلالة على تقدمها، ولكن إذا أدى ذلك الجهد الى تميز أدائها عن الدول الاخرى فإن ترتيبها يتقدم. أما اذا كان ذلك الجهد أدى الى تحسين ولكن الدول الاخرى قد بذلت جهودا اكبر فان ترتيبها يتراجع رغم جهودها ويعنى ذلك انها بالقياس لجهود الدول الاخرى كان يتعين على الدولة المعنية وذلك وفقا للعناصر التى حددها المنتدى الاقتصادى العالمى. وقد كان من الواجب الافاضة بخصوص كل دعامة والبنود المتعلقة بها ولكن قد يستغرق ذلك مساحة لا تسمح بها هذه الورقة، وربما فى اعداد لاحقة يتم تناول كل دعامة وعناصرها بتفاصيل يستطيع القارئ معها ان يستشف كيف يتم القياس لسلامة الاداء فى جميع الجوانب المتعلقة بالمواطن دون التركيز على مجرد الدخل او مجرد الانفاق على المشروعات او مدى ضخامة المشروعات، كل تلك المؤشرات قد نأى المجتمع الدولى عن متابعتها. واصبحت النتائج المنعكسة على الاداء بالنسبة للدول الاخرى هى المقياس. مصر بين الدول وفقا لمؤشر التنافسية اولا: المؤشر العام الشامل للتنافسية كان ترتيب مصر فى عام 2012 هو 94 من 142 دولة وتراجع فى عام 2013 الى 107 (من 142 دولة) وعاود التراجع فى عام 2014 الى 118 (من 148 دولة) وفى عام 2015 يتواصل التراجع ليصل الترتيب الى 119 (من 144 دولة). وبالرجوع الى التفصيلات للتعرف على أسباب هذا التراجع فى المؤشر الكلى فقد حددها التقرير فى 16 مرتبة تنازليا من الاسوأ إلى الأقل سواء كالتالى: عدم الاستقرار السياسى. عدم الاستقرار الحكومى. نقص القدرة فى الحصول على التمويل. عدم مناسبة تعليمات وقواعد الصرف الاجنبى. الفساد. عدم كفاية البنية التحتية. عدم كفاية القوى العاملة المؤهلة. الاقتقاد الى اخلاقيات العمل. الجريمة والسرقة. قواعد العمل المعوقة. فئات الضرائب. التضخم. القواعد الضربية. عدم كفاءة البيروقراطية الحكومية. قصور القدرة على التجديد والابداع. قصور الصحة العامة. وفى الختام نتساءل هل اهتمت الدولة مثلما كانت تهتم قبل الثورة بهذا التقرير وهل تمت مناقشته والرد عليه بالاجراءات التى ستتبع خاصة فيما يتعلق بالعوامل المؤسسية التى يهتم بها المستثمر وسوق المال. لماذا والحال هكذا لا يترجم ويعمم هذا التقرير على الجهات ذات الاختصاص وعلى الأقل للتعرف على نقاط الضعف ومحاولة تحسين الموقف بها. لماذا لم يأخذ هذا التقرير حقه فى وسائل الاعلام لتهيئة الرأى العام للتعامل مع الاسلوب الذى يرانا به العالم الخارجى . تساؤلات عديدة، ربما تكون متأخرة والمؤتمر على الابواب ولكنى أقترح أن يناقش هذا التقرير فى اليوم الاول من المؤتمر وفق روية وزرائنا بشأنه وقطعا ثم الاطلاع عليه من وزراء المجموعة الاقتصادية.