"الحكومة لازم تراعي الفقير. فها هي الاموال تتدفق عليها من كل دول العالم بالمليارات. يعني ما فيش حجة الميزانية والخزانة العامة". كانت تلك الكلمات المقتضبة تعبيرا عن رؤية مواطن لهوجة المطالب الفئوية وحركات الاضرابات المختلفة وتبريرا لشرعيتها. "مصر ليست بحاجة الي اموال. فها هي تتدفق عليها من جميع الجهات ابتداءً من السعودية وقطر الي تركيا مرورا بالصين وفرنسا وكانت تلك هي الكلمات التي أطلقها في وجهي احد العاملين في احدي السفارات الاجنبية حول الازمة التي يجتازها الاقتصاد المصري". وما بين التفاؤل الذي حملته كلمات المواطن بانفراج ازمة التمويل، والحزم والشدة الذي حملته كلمات الدبلوماسي الاجنبي، التي تحمل في طياتها التلميح الي ضرورة توافر "ارادة العمل"، طالما تدفقت الاموال، تولدت الضرورة الي الشفافية والمصارحة ونحن نردد احاديث "المليارات"، التفرقة بين الوعود والواقع، وبين التصنيفات والتبويبات المختلفة لهذه المليارات. فاذا كانت الوعود تتطابق مع الواقع من حيث الاموال التي اعلنت عنها العديد من الدول لمساعدة الاقتصاد المصري علي الخروج من عنق الزجاجة بالنسبة لاحتياطي النقد الاجنبي وعجز الموازنة العامة الا ان الشفافية والمكاشفة مطلوبة لتوضيح ماهية القنوات التي ستتدفق منها هذه الاموال، هل هي منح، هل هي قروض، هل هي ودائع، هل هي استثمارات مباشرة. هل وهل وهل؟ لقد اعلن وزير المالية ممتاز السعيد ان مصر تحتاج الي تمويل طويل الاجل يبلغ خمسة مليارات دولار تضخ في صور وديعة لتمويل المتطلبات الاساسية من السلع الغذائية الاستراتيجية وتنفيذ مشاريع قومية وتنموية، وهذا يعني ان هذه الاموال المتدفقة يدخل جزء منها في قناة الودائع التي سترد بعد حين وليست منحة ومساعدة مطلقة، وهذا ما حدث بالنسبة للمليارات الستة التي تحدث عنها رئيس الوزراء دكتور هشام قنديل مشيرا الي السعودية وقطر وتركيا، حيث انها تتراوح بين ودائع بصفة كلية او بصفة جزئية كما هو الحال بالنسبة لما اعلنته تركيا. كما ان بدء التدفقات الخاصة بهذه الودائع مثال تلك المقدمة من قطر "500 مليون دولار" يعقبها ثلاث دفعات متتالية، يؤدي الي زيادة "صورية" وغير حقيقية في اجمالي الرصيد المصري من العملات الاجنبية لدي البنك المركزي كما ينطبق بصورة اوضح بالنسبة للتدفقات المماثلة من السعودية. وهو ما هللت له بعض التصريحات الرسمية ورددته اجهزة الاعلام المختلفة ومن ثم فان الشفافية والمكاشفة والحوكمة والمصارحة، تقتضي ان نوضح عدة نقاط: جزء اساسي ان لم يكن كل المليارات السعودية والقطرية تأخذ شكل ودائع لدي البنك المركزي لتمويل الاحتياجات الاساسية من الواردات من الخارج، وبالتالي فهي خارج الطرح للاستخدام في تلبية المطالب الفئوية، هذا من ناحية، كما انها مرتبطة بفترة زمنية معينة وليست لأمد طويل الاجل. الجزء الاخر الذي يتم الحديث عنه في صورة استثمارات مرتبطة بالدرجة الاولي باستقرار الاوضاع الاقتصادية ومناخ الاستثمار فلا يعقل الحديث عن مشروعات مشتركة بعشرات المليارات في مناخ تسوده الاضرابات ابتداءً من المعلمين الي عمال هيئة النقل العام، وبما يعني بالتبعية مزيدا من التدهور في المقدرة التنافسية للاقتصاد المصري من حيث جذب الاستثمارات او القدرة علي الانتاج والتصدير للخارج خاصة ان الاستثمارات الراهنة القطرية ونظيرتها السعودية تواجه بمشاكل ترتبط بطبيعة المرحلة التي يجتازها الاقتصاد المصري حاليا، ومن ثم فان الاحاديث عن هذه المليارات الطائرة مرتبط بتمهيد ارضية الهبوط الآمن لهذه الاستثمارات المتوقعة. ويدخل في اطار احاديث المليارات والملايين التي ستتدفق من الخارج، ارتباط جزء كبير منها بوجود خطط وبرامج فعلية ودراسات تفصيلية حول مشروعات بعينها، وليس استخدام الاموال لسد فجوة العجز المتزايد في الموازنة العامة للدولة. حدث ذلك مع البنك الدولي، وبالنسبة لخطط مبادلة الديون المستحقة للعديد من الدول الاجنبية مقابل تخصيص جزء كبير منها للمشروعات الاستثمارية. وكانت ألمانيا احدث الدول في هذا النطاق بالاضافة الي ان التدفقات المالية من جانب فرنسا ترتبط بصفة اساسية بتمويل المرحلة الثالثة من خط المترو، وذات الوضع بالنسبة لليابان وتمويل الخط الرابع للمترو، وهناك من يربط بين اقرار قرض الصندوق وتدفق المساعدات مثال ذلك البنك الافريقي للتنمية. لذلك لابد من الشفافية في الحديث عن المليارات بعيدا عن التغني بما سيتدفق علينا منها.