أكتب من العاصمة البنجلاديشية، دكا، التى أزورها، للمرة الثانية، خلال عام واحد، وقد وصلتها فى ساعة مبكرة من صباح أمس الأول، بدعوة كريمة من رئيس تحرير أكبر صحفها اليومية، بروثوم ألو، التى تحتفل بمناسبة مرور 16 عاما على تأسيسها، وأشرف- شخصيا- بأن أكون واحدا ممن يشاركون بمقال للرأى ينشر بها، شهريا، باللغة البنغالية، وبشكل منتظم، منذ شهر ديسمبر عام 2012 . ------ عندما زرت دكا، فى أوائل شهر نوفمبر من العام الماضى، كانت بنجلاديش، التى تعد واحدة من أفقر البلدان، والثامنة على مستوى العالم من حيث تعدادها السكانى، تعانى من أزمة سياسية مستفحلة، مترافقة مع سلسلة طويلة من الإضرابات وأعمال العنف، أسفرت، وقتها، عن سقوط نحو 150 قتيلا، وخسائر مالية تقدر بمليارات الدولارات. وقبل مغادرتى القاهرة إلى دكا، التقيت بسفير بنجلاديش بالقاهرة، وحيد الرحمن، وقد أفاض الرجل فى شرح العديد من المؤشرات والمظاهر الإيجابية للتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التى حدثت، وتحدث، فى بلاده. حدثنى السفير عما حققه الاقتصاد البنجلاديشى من نمو مرتفع ومتواصل فى السنوات الآخيرة، وتطرق إلى ما تقوم به الحكومة، من خلال تنفيذ العديد من المشروعات الاقتصادية والخدمية وتطوير البنية الأساسية والطاقة والوقود والصناعة والزراعة وفى مجالات النقل والاتصالات والصحة والتعليم، لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية. فيما يبدو، وحسب ما شاهدت بعينى، فإن قدر هذه الدولة الفتية هو استمرار العيش فى دوامة، غير منتهية، من الأزمات السياسية والاقتصادية، المستفحلة، ليس- فقط- بسبب تناحر القطبين، اللدودين، الرئيسين، حزب رابطة عوامى، الحاكم، برئاسة الشيخة حسينة واجد، وحزب بنجلاديش الوطنى، المعارض، برئاسة البيجوم خالدة ضياء، ولكن- أيضا- بسبب ما تواجهه البلاد من فقر وفساد، وأعمال عنف وإرهاب على يد عصابات ما يسمى بالجماعة الإسلامية المحظورة. الأرقام المتاحة عن الأداء الاقتصادى البنجلاديشى توضح انه ظل يحقق نموا يقترب من 6 فى المائة سنويا منذ عام 1996، حتى تاريخه، ويعتبر القطاع الزراعى من أهم القطاعات فى بنجلاديش، حيث ان نحو 23 فى المائة من إجمالى الناتج المحلى يأتى من الزراعة والغابات ومصايد الاسماك، ويستقطب نحو 45 من القوى العاملة، فى الوقت نفسه، يسهم قطاع الخدمات باكثر من النصف فى إجمالى الناتج المحلى. بنجلاديش هى اكبر دولة فى العالم تصديرا للجوت ومنتجاته، والثانية، عالميا، للملابس الجاهزة، وقد بلغت عائدات تصديرها منها، نحو 13 مليار دولار، فى حين بلغت تحويلات العاملين البنجلاديشيين نحو 12 مليار دولار، وسجلت الاحتياطيات من النقد الأجنبى نحو 20 مليار دولار. منذ إعلان استقلالها فى عام 1971، اتبعت بنجلاديش سياسات اقتصادية مختلفة، بدأتها بهيمنة الدولة، من خلال التخطيط والقطاع العام، تلتها بإعادة هيكلة رئيسية نحو إقامة إقتصاد السوق، مع إعطاء الفرصة للقطاع الخاص لقيادة عملية النمو الاقتصادى، وصولا إلى إعطاء الاولوية القصوى للنمو الاقتصادى السريع أملا فى الحد من الفقر عن طريق إتاحة المزيد من فرص العمالة وتنمية الموارد البشرية وتنشيط الاقتصاد الريفى. حسب احد تقارير البنك الدولى، فإن ضعف الحكومة والمؤسسات العامة من أكبر وأهم العوائق التى تقف فى وجه تحقيق التنمية فى بنجلاديش، أضف إلى ذلك كثرة الأعاصير والفيضانات والمشروعات غير الفعالة التى تمتلكها الدولة وسوء الإدارة فى المرافئ البحرية وازدياد عدد أفراد القوى العاملة الذى يفوق عدد الوظائف الخالية المتاحة، وسوء استخدام الطاقة ونقص إمدادات الطاقة وبطء الإصلاحات الاقتصادية والنزاع السياسى الداخلى والفساد. فى هذه الظروف المعيشية الفقيرة والصعبة، تطفو على سطح الأحداث مظاهر سوء الإدارة، والفوضى المرورية، والضوضاء والتلوث البيئى، وهى مظاهر مماثلة إلى حد كبير لما تشهده معظم البلدان النامية، بالإضافة إلى الانقطاع التام للكهرباء، وحوادث الطرق والمواصلات البرية والبحرية، فضلا عن إصابة بنجلاديش بداء وفيروس الإرهاب والعنف، المستعصى، على أيدى الجماعات الإسلامية الإرهابية. نظام الحكم فى بنجلاديش برلمانى ديمقراطى، وهى ثالث أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، ودستور الدولة علمانى، يفصل تماما بين الدين والسياسة، وقد شرفت بزيارة المقر المهيب للبرلمان فى العاصمة، دكا، الذى صممه المهندس المعمارى لويس خان ويضم فى عضويته 345 عضوا منهم 45 مقعدا للنساء يتم انتخابهن فى الدوائر الانتخابية بنظام الاقتراع الفردى. فى آخر انتخابات برلمانية جرت خلال شهر يناير الماضى، فاز حزب رابطة عوامى الحاكم باغلبية المقاعد وبالتزكية، وسط مقاطعة من حزب المعارضة الرئيسى، ومشاركة متواضعة من الناخبين، فى انتخابات افتقرت- بشكل عام- للطابع الاحتفائى، وقاطعها المراقبون الدوليون، ووصفوها بأنها معيبة، مما تسبب فى استمرار الضغوط- حتى هذه اللحظة- على الشيخة حسينة واجد للتوصل إلى حل وسط مع المعارضة ولإجراء انتخابات برلمانية جديدة. أهم ملاحظة إيجابية لفتت انتباهى كزائر اجنبى لبنجلاديش تتركز فى بروز دور المرأة ليس- فقط- فى التمثيل المشرف بمجلس النواب، ولكن- أيضا - وجودها الفعلى على رأس هرم السلطة التنفيذية وقيادة المعارضة، وهو درس قيم، يمكن ان تستفيد منه، بقوة، المرأة المصرية لانتزاع حقوقها المهضومة.