مشكلة مصر، أنها استقطبت من النظامين (الرأسمالي والاشتراكي) أسوء ما فيهما، فأصبحنا لا اشتراكيين ولا رأسماليين. فتحت تأثير اللحاق بمستويات المعيشة الرغدة السائدة في الدول الغربية، والانبهار بهذه المستويات، باعتبارها هدفاً للتنمية، فقد اخترنا نماذج معينة للتصنيع لا تتناسب إطلاقا مع مواردنا، ولا مع واقع الفقر وانخفاض مستوى معيشة أغلبية السكان. ولعل ذلك يفسر لنا تفاقم مشكلة الغذاء وانخفاض درجة إشباع الحاجات الأساسية. وارتبط بالنتيجة السابقة قضية مهمة، وهي مدى فاعلية المدخرات المحلية في تمويل عملية التنمية. فقد نجح الفكر التنموي في إيهامنا بأن مستوى المدخرات المحلية متواضع ولن يكفي لتمويل برامج التنمية، وأنه مهما بذلنا من جهد في تعبئة مدخراتنا المحلية، فإنها لن تنجح في رفع معدلات الادخار المحلى بشكل ملموس يكفي لتغطية احتياجات الاستثمار. ومن هنا يجب أن ترتبط حركة التنمية بحركة انسياب رءوس الأموال الأجنبية. وتحت تأثير هذه الفكرة الخاطئة توسعنا في الاعتماد على التمويل الخارجي. ومهما يكن من أمر، فإن تلك القروض وما ترتب عليها من أعباء، لم تكن تمثل ضغطا مزعجا للاقتصاد المصري. فقد كان معظمها يذهب لبناء المصانع وخلق الطاقات الإنتاجية وتقوية مشروعات البنية الأساسية. كما أن قدرة مصر على خدمة تلك الديون كانت قوية آنذاك، بفضل ما شهدته هذه الفترة من تحكم الدولة في قطاع التجارة الخارجية، تصديراً واستيرادا، ومن ثم التحكم في طرق استخدامات النقد الأجنبي والرقابة على الصرف. ومهما قيل من انتقادات للتجربة الناصرية فيجب التأكيد في هذا الخصوص، على أن الاقتصاد الناصري قد توصل بعد محاولات التجريب المختلفة، إلى أن تعبئة الفائض الاقتصادي المحلي وركزته ووضعه تحت سلطة الدولة الوطنية هو شرط ضروري لتحقيق أهداف التنمية المخططة. وتم تنفيذ الخطة الخمسية الأولى بنجاح كبير. وكانت نموذجا فريدا في تجارب التنمية بدول العالم الثالث آنذاك. حيث أمكن تحقيق الجزء الأعظم من الأهداف القومية المدرجة بها. وما يعنينا في هذا الخصوص، هو أن نشير إلى ارتفاع درجة الاعتماد المصري على الذات في تمويلها، حيث بلغت نسبة التمويل المحلي لإجمالي الاستثمارات المنفذة خلال فترة الخطة 59/ 1960 – 64/ 1965 حوالي 74 %. أما النسبة الباقية، ومقدارها 26% فقد أمكن تأمينها من مصادر التمويل الخارجي.ثم جاء الانفتاح الاقتصادي، كثورة مضادة للاقتصاد الناصري، حيث قام أساسا على إلغاء مكتسبات الناصرية. فقد قام الاقتصاد الناصري على أسس واضحة، تدعم وتقوي الاعتماد على الذات. ومن هذه الأسس: الإيمان بقيادة القطاع العام لعملية التنمية. التصنيع الموجه أساسا للسوق المحلي. التخطيط باعتباره المنهج العلمي لتجاوز التخلف وبناء التنمية المستقلة. أن جهد التنمية الوطنية يجب أن يضطلع به (الداخل) وليس (الخارج)، الأمر الذي يتضح في ضخامة مساهمة الادخار المحلي في تمويل الجزء الأكبر من استثمارات الخطة الخمسية الأولى (بحوالي الثلثين). إن رأس المال الأجنبي يمكن الاستعانة به في تمويل التنمية، شريطة أن يكون - خاليا من القيود السياسية. إن التنمية يجب أن تنطوي على عدالة اجتماعية، بحيث يتمتع بثمارها الفقراء ومحدودو الدخل. إلى غير ذلك من أسس. أما الانفتاح الاقتصادي، سار على عكس هذه الأسس. ومن ثم أجهضت التجربة الناصرية التي كان يمكن لها أن تكون النموذج الثاني بعد اليابان - حيث استطاعت اليابان أن تخلق نموذجا للنمو المعتمد على الذات، نموذجا للتراكم الذاتي، يقوم على تعبئة وتجنيد الموارد والإمكانات لخدمة النمو الرأسمالي في ظل قيادة واعية لجهاز الدولة. وقد مكنها ذلك من أن تحقق شرط السيطرة الوطنية على الموارد وحماية التراكم الداخلي من قوى النهب الخارجي. كما أن اليابان بحكم عزلتها وفقر مواردها قد أبعدها عن مخاطر الاستعمار والاحتلال العسكري في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ناهيك أنه قد تكونت في اليابان طبقة بورجوازية قادت عملية التطور الرأسمالي - ورغم إجهاض التجربة الناصرية فإنها احتلت المرتبة الأولى في النماذج التنموية في القرن العشرين لكثير من الاقتصاديين الحاصلين على جوائز نوبل في الاقتصاد. ونحن بصدد إعادة رسم خريطة مصر الاقتصادية من جديد، علينا أن نعي مجموعة من الحقائق تعتبر بنود أساسية ضمن دستور التقدم الاقتصادي خاصة وأن ترتيب الأولويات عندنا قد يصيبه نوع من الانحياز الذي يجهل قراءة تاريخ وتخلف الأمم. الحقيقة الأولى أن الثورة الصناعية في كثير من الدول الغربية، لم تكن لتتحقق قبل أن تتحقق فيها الثورة الزراعية. وهذا ما لم يحدث حتى الآن في دول العالم الثالث. والمقصود بالثورة الزراعية هو أن يتجه مستوى الإنتاجية في الزراعة إلى حد معين يسمح بتوفير فائض غذائي يكفي المشتغلين خارج القطاعات الزراعية، ويوفر المواد الخام اللازمة للصناعة ومقدار معقول للتصدير، وذلك في ظل تقريب للفوارق القائمة بين المدينة والقرية وتحرير جانب من قوة العمل الزراعي للاشتغال في القطاع الصناعي. هذه هي الثورة الزراعية التي سبقت، بهذا المعنى، الثورة الصناعية في أوروبا، وبالتالي لا يمكن، في تصوري، أن تحدث تنمية معتمدة على الذات، ويكون للتصنيع فيها دور رئيسي ما لم تتحقق الثورة الزراعية. ولكن في التجربة المصرية، تم التركيز على التصنيع الذي قام إلى حد كبير على اعتصار القطاع الزراعي، حيث وقف الإصلاح الزراعي في بدايته مكتفيا فقط بإلغاء الملكيات الكبيرة، وكان يجب أن يستكمل بإجراءات طويلة ومستمرة، مثل تحديث الزراعة نفسها وزيادة الاستثمار فيها، وإبقاء جزء كبير من الفائض الذي يتحقق في الزراعة لتنمية الزراعة نفسها، ولتوفير المعدات الإنتاجية وتطوير قوى الإنتاج وتجديدها. إلخ. إذن ليس من المتصور أن تحدث تنمية زراعية بدون تنمية صناعية. كما أن العكس صحيح أيضا. ومهما يكن من أمر، فلا بد أن يكون هناك الآن وعي بضرورة وخطورة التنمية الزراعية، على الأقل في مجال إنتاج الغذاء، لأنه قد تحول الآن إلى سلعة للاستقطاب الدولي وسلاح يستخدم ضد قضايا الأمن القومي للبلد الذي يزداد اعتماده على غيره. ولذلك فبغض النظر عن فكرة الجدوى الاقتصادية للإنتاج الغذائي الزراعي، فإن البحث في هذه القضية من منظور الأمن القومي يحتم علينا الاهتمام برفع قدرتنا على إنتاج الغذاء مهما كان الثمن. الحقيقة الثانية ضرورة إعادة النظر في كثير المسلمات التي وقعنا فيها طوال عقود عدة. فطيلة العقود الخمسة الماضية كوفئت البلدان النامية التي تمكنت من تنمية صناعات تصديرية قادرة على التنافس بمعدلات نمو مذهلة: تايوان وكوريا الجنوبية في ستينيات القرن العشرين، وبلدان جنوب شرق آسيا مثل ماليزيا وتايلاند وسنغافورة في السبعينيات، والصين في الثمانينيات، ثم الهند أخيراً في التسعينيات. إلا أن العلامات تشير إلى أننا بلغنا نقطة التحول نحو تطبيق نظام جديد حيث لن تكون قواعد اللعبة مرحبة بالإستراتيجيات المعتمدة على التصدير، فحين تصبح الولاياتالمتحدة وغيرها من البلدان المتقدمة اقتصادياً أقل ترحيبا بصادرات البلدان النامية، فليس من المرجح أن تنجح الأسواق الناشئة سريعة النمو في سد الفراغ وتوفير الدفعة الكافية للنمو القائم على التصدير. كل هذا يعني أن التصدير سوف يصبح مهمة أكثر صعوبة. والدول التي تحتفظ بفوائض ضخمة مثل الصين سوف تضطر إلى الاعتماد بصورة أعظم على الطلب المحلي لتغذية اقتصادها. فالنجاح على الأمد البعيد ما زال يعتمد على ما يحدث في الداخل وليس الخارج. الحقيقة الثالثة، أنه بالرغم من صفة الأولوية التي يحملها القطاع العام الصناعي وإصلاحه في برنامج الإصلاح والتطوير والتنمية والإنماء في بلدنا، إلا أن هذا القطاع بقي خارج المعالجة على امتداد العقود الماضية، فهل آن الآوان أن نضع خطة شامله لإصلاحه. الحقيقة الرابعة، أن نعيد ترتيب الأولويات ونضع السياسة الصناعية في المقدمة؟ حيث إننا لهثنا طويلا وراء أهل الاقتصاد المتيمين بإجماع واشنطن بينما الليبراليون الجدد شطبوها من حساباتهم. وهناك تأكيد قوي على واحد من أعظم الأسرار الاقتصادية تكتما: ألا وهو أن أغلب بلدان العالم، سواء عن قصد أو من دون تعمد، تلاحق سياسات صناعية على نحو أو آخر. ولا يصدق هذا فقط على الصين وسنغافورة وفرنسا والبرازيل، بل ويصدق أيضاً على المملكة المتحدة وألمانيا والولاياتالمتحدة، وهي البلدان التي عودتنا على سياسات صناعية أقل صراحة. وعلينا أن نحذر من التحول المفاجيء إلى دولة للخدمات وترك الجانب الصناعي، فلن يتقدم الأول دون أن يسبقه تقدم الثاني. فلقد انخرط اثنان من الأكاديميين من بيركلي، وهما ستيفن كوهين وجون زيسمان، في مناقشة مماثلة في الولاياتالمتحدة في عام 1987 في الكتاب الذي اشتركا في تأليفه تحت عنوان "مسائل التصنيع"، فزعما استحالة نشوء قطاع خدمات قابل للحياة في غياب التصنيع. ولقد تفشى هذا الهوس في الولاياتالمتحدة، حيث ذهب الديمقراطيون في الكونجرس إلى حد التحالف مع جماعات الضغط المناصرة للصناعة في إقرار التشريع الذي من شأنه أن يوفر الحماية والدعم المالي بهدف زيادة حصة الصناعات في الناتج المحلي الإجمالي. وبسبب الأزمة المالية، تقبل العديد من الساسة هذه الحجة، في ارتداد ظاهري إلى وجهة نظر آدم سميث في التأكيد على أن الخدمات المالية غير منتجة بل وهدامة - ولابد من تقليمها من خلال التدخل الحكومي. ثم استنتجوا من هذا ضرورة التوسع في الصناعات، والصين أوضح مثالٍ على ذلك. فالقسم الأعظم من براعتها الفائقة في مجال التصنيع يستند إلى المساعدات التي تقدمها الحكومة للصناعات الجديدة. ونحن بصدد وضع سياسة صناعية جديدة علينا أن ندرك بعض المبادئ الأساسية في هذا الشأن منها، أن السياسة الصناعية تشكل حالة ذهنية أكثر من كونها قائمة تشتمل على سياسات محددة. والأمر الأكثر أهمية في هذا السياق يتلخص في خلق المناخ اللازم لتشجيع التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص وليس توفير الحوافز المالية. فمن خلال المجالس الاستشارية، أو الموائد المستديرة القطاعية، أو صناديق المشروعات المشتركة بين القطاعين العام والخاص، تهدف جهود التعاون في كل الأحوال إلى استخلاص المعلومات حول الفرص الاستثمارية والمعوقات المحتملة. وهذا يتطلب وجود حكومة "ضاربة بجذورها" في القطاع الخاص، ولكن شريطة ألا تحابيه على نحو مُبالغ فيه. والثاني أن السياسة الصناعية لابد أن تعتمد على كل من العصا والجزرة. ولابد أن تكون الحوافز الحكومية مؤقتة وقائمة على أساس الأداء. أما المبدأ الثالث الذي يتعين علينا أن نضعه في الحسبان فهو أن ممارسي السياسة الصناعية لابد وأن يدركوا أنها تهدف في الأساس إلى خدمة المجتمع ككل، وليس البيروقراطيين الذين يديرونها أو الشركات التي تتلقى الحوافز المرتبطة بها. ويبدو أن الإخفاقات التي شهدناها وعايشناها ترجع في أغلب الأحوال إلى عجز الحكومات عن توفيق جهودها مع موارد بلدنا. والواقع أن نزوع الحكومات إلى استهداف صناعات مفرطة في الطموح وغير متوافقة مع الموارد والمهارات المتاحة يساعد في تفسير انتهاء محاولات هذه الحكومات لاختيار الفائزين إلى اختيار الفاشلين في كثير من الأحيان. وعلى الطرف الآخر سنجد الجرأة في اتخاذ القرارات أمر حاسم للتعجيل بتنمية بلدنا، ولعل مقولة توماس واطسون مؤسس شركة آي بي إم تصب في هذا الاتجاه: "إن كنت تريد النجاح فعليك أن ترفع ثمن أخطائك". والحكومة التي لا ترتكب أي أخطاء حين تشجع الصناعة، هي الحكومة التي ترتكب الخطأ الأكبر المتمثل في عدم بذل القدر الكافي من الجهد، والظروف كلها مهيأة لوضع الصناعة على رأس الأولويات خاصة أن الأزمة المالية العالمية أكسبت التدخل الحكومي في الاقتصاد قدراً أعظم من الشرعية - وسوف نشهد المزيد منها. ويأتي الخطر الأكبر من طابع العولمة فكل صناعة تعتبر مرشحة للدعم عادة. ففي حين كان المفهوم الأصلي للسياسة الصناعية يشتمل على حماية الصناعات من المنافسة الدولية، فإن عالم اليوم يتطلب إدماج القدرة الإنتاجية المحلية في سلسلة القيمة العالمية. وهذا يعني ضمناً الحاجة إلى سياسات تقوم على تعريض الصناعات للمنافسة الدولية.