شطحات ترامب السياسية تجاه الإسلام والمهاجرين يجب ألا تلهينا عن الهدف الحقيقى الذى يسعى بقوة لتحقيقه، وهو إعادة هيكلة الاقتصاد الأمريكى ليصبح أكثر اعتمادا على الداخل بعد سنوات طويلة جرى السماح فيها للشركات الأمريكية بالاستفادة من مقررات العولمة لمضاعفة أرباحها عدة أضعاف من خلال الإنتاج خارج الحدود، القضية لم تعد أمريكية فقد سبقتها بريطانيا بخطوة الخروج من الاتحاد الأوروبى «بريكست» لتعزيز الاقتصاد البريطانى على حساب نظرية أوروبا الموحدة الرامية إلى جعل القارة العجوز أكبر اقتصاد فى العالم، والآن فإن كل الأنظار تتعلق بالانتخابات الفرنسية المقررة فى مايو المقبل حيث يستعد اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان بكل ما أوتيت من قوة للفوز بها واعدة الناخبين بالخروج من الاتحاد الأوروبى «فريكست» ومتعهدة بالعودة إلى العملة الفرنسية «الفرنك»، وبالتحلل من كل الاتفاقيات التجارية الجماعية سواء التى تربطها بأوروبا أو تلك المرتبطة بمنظمة التجارة العالمية «العولمة». مكافحة الهجرة والإرهاب الإسلامى هو السلاح الشعبوى لليمين الفاشى للتحلل من قيود العولمة بعد أن حقق الغرب الأبيض الاستفادة القصوى من هذه النظرية التى اخترعها وحكمت الاقتصاد العالمى لنحو 3 عقود، وبعدما اتضح أن خسائر الاستمرار فى العمل وفقا لآلياتها تفوق المكاسب لأسباب كثيرة أبرزها انتقال مصدر الثقل الصناعى والتكنولوجى من أوروبا وأمريكا إلى الشرق حيث الصين واليابان وكوريا وبقية النمور الآسيوية. القضية اقتصادية فى المقام الأول مع عدم إغفال مخاوف الغرب الأبيض الأنجلو ساكسون من ضياع الهوية بسبب انتشار المهاجرين من الأعراق الأخرى، ليس فى أمريكا فقط ولكن فى البيت الأوروبى نفسه. الكل يعرف الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التى تعانى منها دول وروبية عديدة من فرنسا وإنجلترا وإيطاليا إلى البرتغال وأسبانيا واليونان التى هى الآن على وشك الإفلاس رغم ضخ ما يزيد على280 مليار دولار مساعدات خارجية فى اقتصادها الهش. الغرب يعانى من مشكلتين رئيسيتين هما ضعف النمو لسنوات طويلة وخلل يصعب احتواؤه بين نفقات هذه الدول وإيراداتها، وقد ترتب على هذه المشكلات تصاعد مشكلات البطالة وخفض الإنفاق الاجتماعى، وهذان الأمران تكفلا بإضرام مشاعر الغضب بين الناخبين الذين ذهبوا طائعين إلى اليمين الفاشى لمنحه أصواتهم، وهكذا ظهر ترامب واتجه حزب المحافظين البريطانى يمينا أكثر فيما توشك فرنسا على السقوط فى قبضة الفاشية الجديدة ما لم تحدث معجزة تصل بماكرون المرشح الاشتراكى الراديكالى إلى قصر الإليزيه، وهو إنجاز مشكوك فى تحققه بالنظر إلى تشرذم وتفتت اليسار الفرنسى ووقوع المنافس الحقيقى لمارين لوبان فى فضيحة فساد تتناقض مع تعهده للناس بعهد جديد قائم على النزاهة! حتى الصين التى تدافع بشدة عن آليات العولمة وضرورة استمرارها تمارس إجراءات تزيد الأمور تعقيدا؛ حيث قيدت الاستثمارات الأجنبية فى العديد من الأنشطة التى لم تعد بحاجة لخبرات أجنبية فيها، والأهم أنها خصصت 150 مليار مليار دولار لشركات التكنولوجيا الوطنية لتطوير صناعة أشباه الموصلات وإحداث طفرة بها بعد أن تمكنت من الصناعة على حساب نظرائها فى أوروبا وأمريكا. الصراع اقتصادى بامتياز، ومع ذلك فإن انتصار الانعزاليين ليس حتميا، وفضلا عن المدافعين عن القيم المتحضرة فى الغرب الذين يرفضون ممارسات اليمين المتطرف، فإن التهديد باتخاذ إجراءات حمائية أوقع الشركات العملاقة والعابرة للحدود فى صدام مع الإدارة الأمريكية الجديدة، كما أن مصالح هذه الشركات فى أوروبا تتعارض بشكل حاسم مع الخطط التى تهدد بانفراط عقد الاتحاد الأوروبى، الشركات العابرة للقوميات توظف 2٪ من القوة العاملة فى أنحاء العالم والنسب تتضاعف داخل الولاياتالمتحدة، كما أنها تسهم بقدر مهم فى الناتج الإجمالى الأمريكى رغم أن جانبا مهما من أعمالها يتم خارج الأراضى الأمريكية. هذه الشركات تساند بشدة استمرار العمل بقوانين العولمة لأنها تحقق مصالحها متفقة فى ذلك مع التوجه الآسيوى وكثير من دول آسيا حلفاء استراتيجيين للغرب الأمريكى والأوروبى. اليوم تنشغل مراكز الأبحاث والمؤسسات المالية باحتساب آثار إعادة العمل بالحواجز التجارية ودعم إجراءات الحماية، ستاندارد آند بورز تقول إن خسائر الصين فى تجارتها مع أمريكا وانسحاب بعض الشركات الأمريكية سوف تصل إلى 1.4 تريليون دولار وهى خسارة مؤلمة ولكنها ليست كارثية وفقا لتعبير الإيكونوميست، لكن الخسارة الكبرى ستقع على دول أخرى تعمل كسلاسل موردين وهى دول آسيوية وأوروبية حليفة للولايات المتحدة، أما المكسيك فقد حذرت المؤسسة من أن اقتصاد 12 ولاية أمريكية سيتأثر بشدة فيما لو تم تبادل الحواجز التجارية بين البلدين.. معركة كبيرة مازلنا فى بدايتها لكن النهاية معروفة وهى المصير المحتوم الذى تلاقيه كل الأنظمة الفاشية مثل ألمانيا التى رفعت فى وقت ما شعار ألمانيا فوق الجميع، وكانت النتيجة كما عرفها الجميع.